مائدة الدم
هل كان الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، يتحدث خلال رائعته المؤثرة “بيروت” التي كتبها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، يدري، أن قصيدته الخالدة، مفتوحة الزمكان، لاسيما في المقاطع التي علقت في التسجيل الصوتي دون التدوين الورقي لأمسيته التي قرأ فيها ذلك النص، وهو يرسم بكاريكاتيرية تقطر ألماً، ودماً، مشهد تلك – المائدة – الآدمية التي لا ينجو منها أحد، ليس من أبناء المكان اللبناني، بل حتى كل من استقطبهم هذا المكان – آنئذ – كي تكون هناك وجبة، متنوعة الأصناف، متنوعة الزمر الدموية، متنوعة لغات الضحايا، ما جعل ملحمته، هذه، أكثر تأثيراً، وهي تطفح بجماليتها التي استمدها، من روحه، واستلهمها من فرادة الألم الذي انبثق – آنئذ – لتكون هناك نوافير من دماء، لآلاف الذين وقعوا فريسة العنف المعمم، وهو في صدد إيقاف هذه المأساة.
يبدو أن رؤية الشاعر الثاقبة، وهي تخترق جدران الواقع، ببعديه الزماني/المكاني، في آن، كانت ترصد تفاصيل مدن أخرى، وفي زمن آخر، ونحن نستعيد – هذه الأيام – ذكرى رحيله السادسة، إذ باتت مساحة الاضطراب شاسعة، والجرح الآدمي يفغر فاه على نحو أوسع، وماكنة الموت والدمار، تواصل دورتها، على نحو مروع، بعد مرور قرن كامل على الحرب الكونية الأولى التي استولدت شقيقتها الثانية بعد عقود، وتنطع رجال الفكر والفلسفة لقرع أجراس الخطر، إلى جانب جيش المبدعين الكتاب والفنانين، في محاولة دؤوبة من قبلهم، للعمل على توفير سبل أمن المكان، وكائنه، في آن، وهو ما أظهرت براكين النار التي اندلعت – على شكل شبه منتظم – استحالته، وذلك لأن الأرومة التي تضرم ثقافة الكراهية في النفوس والصدور لما تزل تفعل فعلها، رغم كل هذا التطور الهائل لثقافة “حقوق الإنسان” وما يسمى بالوشائج التي تربط أبناء ما تسمى بـ “الأسرة الدولية”، هذه الأسرة التي ظهرت – على حقيقتها – وهي تميز بين من هم – في عهدتها – ولو في حدود التنظير، فتقصر عن واجبيها الأخلاقي، والقانوني، وهو سلوك يأتي نتيجة تبلد الحس الإنساني، ضمن فضاء العلاقات المؤسسة وفق عامل المنفعة.
ثمة هلع بات يهيمن على المرء، وهو يضغط على زر الريمونت كونترول، يتحول بين محطات الفضائيات، أو يهرع إلى حاسوبه الشخصي، أو حين يلج أوتوسترادات المعلوماتية، عبر شاشة هاتفه المحمول، حيث لا مناص من المناظر الأكثر استفزازية وهي تلهب مشاعره، فلا مناص منها، مادامت هي نفسها التي تواجهه، حتى في الصحيفة الورقية التي يتابعها، بل وحتى في أحاديث من يلتقيهم، في هذه الجلسة، أو تلك، وهل أبشع، وآلم، وأكثر استفزازاً من مشاهد النحر، أو جز الرؤوس، أو التفخيخ، أو استعادة تاريخ الرق، واقعاً، بين ظهراني هذا العالم، حيث صرخات السبايا، والثكالى، والرضع المجوعين، بل والجرحى تخترق غشاء آذان الصمت، وهي تستغيث” وامعتصماه”، حيث المخاطب – وهو ابن ثقافته الجديدة – ماض في هذاءته، ووحامه ، نتيجة تأجج شهوة التسلط المبطنة، والطافحة، يدير بسببها، الظهر لمرأى كل ما لا يهم دائرة اهتمامه.
ما سبق – أعلاه – تفاصيل صغيرة، مثيرة، جارحة، يلتقطها الكاتب ، أو الإعلامي في كراسته، أو سطح مكتب كمبيوتره، أو ذاكرته، أو الذاكرة الفلاش ميمورية، الاصطناعية، متوازية، مع امتدادات المخيلة الإبداعية، أو اللقطة، التوثيقية، يقدمها المصور الصحفي، عبر عدسة كاميرته، وهي تشكل ركامات هائلة، لانهاية لها، في مناسبة لفعل الدمار، أو الإبادة، الهستيريتين، لاتزال في انتظار الإطار الذي تتموضع فيه، كتحقيق صحفي طويل يحتاج إلى روح روائي، أو شاعر، أوقاص، أو حتى سينمائي، يصنعه منها ملحمة، تشق طريقاً جديدة، غير الطريق المؤدي إلى السدود التي ارتطم بها مشروع السابقين عليه، من أجل إعادة صناعة ثقافة الحياة، صناعة ثقافة جديدة، تلغي من معاجمها لغة الدم وإزهاق أرواح الأبرياء، تحت أية يافطة كانت…!
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”