
مؤتمر الحوار الوطني… يومٌ وطنيٌّ بامتياز
بدايةً، لم يكن المؤتمر في اليومين اللذين عُقدا في دمشق فحسب، بل كان تتويجاً لجولاتٍ حوارية وطنيةٍ شملت جميع المحافظات السورية، وامتدّت لأكثر من خمسة عشر يوماً. فقد كان مؤتمر الحوار الوطني مؤتمراً جَذْره الوطن وسَقْفه إرادة الشعب السوري الحرّ، وكان أكبر من أن تحدّه ديمقراطيةٌ أو تقمعه دكتاتورية.
لقد تجاوز المؤتمر بعض الشكليّات لعِظَم وأهمية المواضيع الرئيسية للحوار، التي تُحدّد مستقبل سورية ولا تقبل التأخير أو التأجيل، إذ إنّ استحقاق بناء الدولة الدستورية فرضُ كفايةٍ على كلِّ سوريٍّ، وفرضُ عينٍ على كلِّ ثائرٍ حرٍّ. فالدستور – سواء كان إعلاناً دستوريّاً أو دستوراً دائماً – هو الضامن القانوني لوحدة سورية أرضاً وشعباً، وهو مرجعيتنا الحقوقية في احترام وتعزيز وحماية الحقوق الدستورية والمدنية، وبالتالي حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية. كما أنه مصدر شرعية أيِّ قانونٍ أو تشريعٍ تفرضه متطلبات إقامة مبادئ وقواعد العدالة الانتقالية، وتحديد الهوية الاقتصادية للبلاد، وتوضيح دور منظمات المجتمع المدني في بناء الدولة وتعزيز دورها في إعادة الإعمار والتنمية المستدامة، بما يعزّز الاستقرار ويحفظ السِّلم الأهلي في البلاد.
وحيث إنّ اجتهادات محكمة النقض السورية استقرّت على أنّ البحث في موضوع الطعن وتجاوز الدفوع الشكلية يعني قبوله شكلاً وسقوط أي دفعٍ بالشكليات، فقد كان هَمُّ المؤتمرين هو بحث القضايا الوطنية الكبرى، دون الالتفات إلى الشكليّات، إيماناً منهم بأنّ بناء المستقبل أهم بكثيرٍ من الاعتبارات الشكلية. وهكذا كانت موضوعات وعناوين الحوار الوطني جوهر عمل كلِّ من حضر، حيث تجاوزوا الشكليات كما تجاوزوا الاصطفافات غير الوطنية، فكان الاصطفاف الوطني كفيلاً بإسقاط جميع الاعتبارات الشكلية في الحوار الوطني، كما سيكون كفيلاً بإسقاطها عند كلِّ استحقاقٍ مصيريٍّ.
وقد كنتُ عضواً في إحدى ورشات العدالة الانتقالية، حيث قدّمت التوصيات التالية، وهي خلاصة دراسةٍ متكاملةٍ تفصيليةٍ، اعتمدت فيها على التأصيل والتدليل والاستنتاج:
1- إحداث هيئةٍ مركزيةٍ مستقلة، وأقترح أن تكون وزارةً متخصّصةً باسم “وزارة حقوق الإنسان”، تُكلَّف بإدارة ملف حقوق الإنسان من بابه إلى محرابه، بحيث تنضوي تحتها جميع الهيئات والمنظمات الحقوقية، وتعمل على ضمان احترام وتعزيز وحماية حقوق الإنسان في سورية، والوفاء بالالتزامات القانونية التي ترتّبها المواثيق الدولية.
2- انطلاقاً من أن محاسبة المتورطين في الجرائم الخطيرة شرطٌ أساسيٌّ لتحقيق سلامٍ مستدامٍ في سورية، يجب أن يكون للمحاسبة مكانةٌ مركزيةٌ في المرحلة الانتقالية، مما يستوجب:
– هيكلة قوات الأمن والشرطة على أسسٍ قانونيةٍ تلتزم باحترام حقوق الإنسان الأساسية.
– إصلاح وإعادة هيكلة القضاء والمحاكم وفق المعايير الدولية للقضاء العادل، الذي يقوم على النزاهة والكفاءة والاستقلال والمساواة والحيادية والشفافية.
– إدراج جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية والإبادة الجماعية ضمن القوانين الوطنية.
– إدراج العدالة الانتقالية كأحد المضامين الأساسية في الإعلان الدستوري أو الدستور الدائم.
– إحداث آليةٍ وطنيةٍ لجمع وحماية الأدلة، والاستفادة من الخبرات الوطنية والدولية في تدريب مجموعات السوريين المهتمين بهذا الملف، وتقديم الخدمات الفنية والتقنية الضرورية لتنفيذ هذه المهمة وفقاً للمعايير الدولية، وتأمين سبل التمويل لهذا المشروع، نظراً لما يعانيه السوريون من تدهورٍ اقتصاديٍّ بسبب التهجير القسري وغياب مصادر الدخل والدولة.
– تدريب فرقٍ من القانونيين السوريين على آليات ومعايير الرصد والتوثيق الصحيح والفعّال.
– إحداث محاكم خاصة بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، بالتوازي مع تضمين التشريعات الوطنية مبادئ وقواعد وأصول تجريم هذه الجرائم، وملاحقة ومحاكمة المجرمين، ومنع إفلاتهم من العقاب، لمواجهة تحدي “الاختصاص الزماني”، حيث إن القوانين الجزائية لا تسري بأثرٍ رجعيٍّ إلا بنصٍّ قانونيٍّ صريح.
– إنشاء صندوق “التعويضات وجبر الضرر“، لأن العقاب الجزائي لا يكفي وحده لجبر ضرر الضحايا، ولابد من إيجاد صندوقٍ تتولى الدولة تأمين الأموال اللازمة من خلاله لدفع هذه التعويضات.
– التشبيك والمناصرة مع المنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية والمقررين الخاصين للأمم المتحدة.
– تعزيز التعاون بين الفرق الحقوقية السورية ولجان التحقيق وتقصّي الحقائق الخاصة بسورية، والآلية الدولية المستقلة لملاحقة مرتكبي الجرائم الجسيمة في سورية، والآلية الدولية للبحث والكشف عن مصير المفقودين، وتشكيل هيئةٍ حقوقيةٍ مركزيةٍ سورية تُوكَل إليها هذه المهمة.
– عدم التسرّع أو الاستجابة لمطالب بعضهم بانضمام سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية، والمساومة على ذلك مع المجتمع الدولي، مع ضرورة تفعيل سُبُل الإحالة الأخرى لملاحقة أركان النظام البائد، عبر قرارات مجلس الأمن الدولي أو قيام المدعي العام للمحكمة بفتح التحقيق من تلقاء نفسه، باعتبارها السُّبُل الوحيدة لضمان عدم إفلات رأس النظام البائد من العقاب، وإسقاط كل الذرائع التي قد تسوقها الدول الحامية له.
– إلغاء الاتفاقيات الثنائية التي عقدها النظام البائد مع الدول الغازية، وإعلان بطلانها وإبطال مفاعيلها القانونية بأثرٍ رجعيٍّ.
– عدم الاعتراف بالديون البغيضة التي رتّبها النظام البائد على كاهل الشعب السوري لمصلحة الدول الغازية الشريكة في الجرائم المرتكبة بحق السوريين.
– مطالبة تلك الدول بالتعويض عن الأضرار التي لحقت بأرواح السوريين وممتلكاتهم، ومحاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم.
وأخيراً، نود التأكيد على أهمية حصر السلاح بيد الدولة، وضمان وحدة سورية أرضاً وشعباً، بوصفهما من أهم مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، الذي أجمع عليه جميع المؤتمرين. وبالتالي، فهو تفويضٌ شعبيٌّ للحكومة للقيام بما يلزم لجمع هذا السلاح، وخصوصاً ممن يحمله ضدّ إخواننا في إدارة العمليات العسكرية والأمن العام، والقضاء على أيّ محاولاتٍ لتفكيك الدولة السورية أو تقسيمها تحت أيِّ مسمّىً كان.