fbpx

مأساة غزة.. هل ما زال هناك أفق للإخاء الإنساني؟

0 585

كتبت ألف مقال عن الإخاء الإنساني، وإخاء الأديان، ونجاح الحضارة تكنولوجياً وأخلاقياً، ولدينا بالطبع ألف دليل ودليل على أن الفائض الحضاري ينتج فائضاً أخلاقياً، وأن القانون الدولي وإعلان حقوق الإنسان بات يرسم في الأرض عالماً سعيداً، وأن الدول العظمى باتت مثالاً رائداً للتكافل والحرية وحقوق الإنسان، واعتبرت أن ذلك من أعظم الأدلة على نجاح المشروع الإلهي في الأرض.

ولكنني لا أخفيك، أعيش اليوم في أزمة نفسية حادة، بعد أن صدمني سلوك الدول المتقدمة والديمقراطية منها بوجه خاص في دعم إسرائيل المطلق واللامحدود، وفي غياب أدنى تبرير أخلاقي لهكذا انحياز تكون صورة الحضارة الإنسانية التي نتغزل بها قد تلطخت بالعار، بعد أن تم تقديم الإنسانية نفسها تضحية رخيصة على مذبح السياسة.

لم أكن أتوقع أن هذه الحضارة التي كتبت فيها ألف مقال ودراسة، أتحدث فيها عن نضجها وأتغزل بقيم العدالة والمساواة التي ظهرت في رعاية اللاجئين، وأنها نضجت بحقوق الإنسان حتى صارت مصدر إلهام وعطاء لم أصدق أنها ستتحول في لحظة من الجنون إلى تأييد أعمى لجنون الإسرائيليين وهم يطلقون توحشهم وانتقامهم ضد مشافي غزة وشيوخها وأطفالها.

تل أبيب تحولت إلى جسر مفتوح على جانب الطريق يركبه رؤساء العالم بالتناوب بايدن وسوناك وماكرون، وكل منهم يزاود على موقف صاحبه في تأييد حق الإسرائيلي، وفي الدفاع عن أمنه، لقد باتوا يحفظون عن ظهر قلب أسماء القتلى الإسرائيليين!! ولكن لا أحد يحفظ أسماء شهداء غزة… لا أحد… لا أحد… لا أحد.

وأنا لا أبرر بالمناسبة مقتل أي مدني إسرائيلي، ولا أعتبر أن ما قامت به حماس بطولة ولا فدائية بل جنوناً وعبثاً وتشفياً ومغامرات… ولكن ما ذنب هذا الشعب المسكين المحاصر في قفص الموت في وادي غزة؟

لم يمض أسبوع واحد حتى باتت وزارة الصحة الفلسطينية تقدم كل ربع ساعة تحديثاً لعداد القتلى والشهداء، الذي وصل عند كتابة هذه السطور إلى أكثر من ستة آلاف روح بريئة ويقول الوحش الساكن في زعماء إسرائيل: هل من مزيد؟.

اللجوء الفلسطيني هو اليوم الأقسى والأمر في العالم، فاللاجئ السوري والأفغاني والسوداني أمامه عالم عريض ليهرب إليه، ولديه فرص كثيرة يتجه إليها من مطارات وموانئ وغابات وصحارى، ولديه فرص طلب اللجوء في العالم، فيما لا يملك الفلسطيني من ترف هذا اللجوء شيئاً ، فغزة قفص مقفل وشمالها كهتنم وجنوبها كسقر، وما بينهما نار تلظى ولا مهرب من الموت إلا إلى الموت، ومع ذلك فزعماء العالم لا يرون في عذابات الفلسطينيين إلا أنها تضحيات جانبية من أجل أمن إسرائيل وسلامتها.

لمصلحة من يتوجه الزعماء الغربيون في رحلتهم صد الإنسانية وضد البراءة وضد الطفولة؟ لمصلحة من يقومون بتبرير جرائم الاحتلال ومباركتها، ويتحفظون بكل الوسائل أن تخرج من شفاههم أي كلمة عابرة بأنهم يدعون لوقف الحرب، لقد تسربت كلمات تحمل مثل هذا المعنى ولكن كان البيت الأبيض ينفيها على الفور ويؤكد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها حتى زوال غزة بمن فيها… الأمر نفسه كرره البيت الأبيض والأسود ووستمنستر وفرساي… والتبرير هو هو.. مواجهة الإرهاب!.

هل سنكسر الدف ونبطل المصلحة، ونعتذر للناس أننا عشنا سراباً من وهم حول نضج الإنسان وعقلانيته؟ وأن الواقع أننا نعيش في غابة متوحشة أرخص ما فيها الإنسان، وهل سنقول للعالم إنا كنا في ضلال مبين؟.

إنها بالفعل صرخة مع الذات الحائرة، ترادوني كل يوم، وتثب على قدمين كلما شاهدت نشرة أخبار، وتقرع في وجهي وصدري كلما أطل أطفال غزة، وتعصف بالفؤاد كله كلما ظهرت صورة شهيد.

وفقط لأنني تعلمت أن الأمل لا يجوز أن يستسلم لليأس، وأن للباطل جولة وللحق جولات، وأن الإنسان هو روح الله الخالدة فيه فإنني اواجه المكروه بالصبر، وسأقول إنهم لا يمثلون الديمقراطية ولا الحرية ولا حقوق الإنسان، مع انهم أربابها وشياطينها وأحبارها المخضرمون، وسأبحث في هذه الشعوب الغربية عن أحفاد سبينوزا وديكارت وروسو وفولتير وسارتر ومانديلا عن أولئك الذين تحدثوا عن حقوق الإنسان، واعتبروا أي تمييز بين طفل إسرائيل وطفل غزة جريمة بحق الإنسان وبحق الله، سأظل أبحث عن أولئك الذين كتبوا حقوق الإنسان وناضلوا من أجل أن تصبح شرعة دولية، وفرضوا أنماطاً عادلة من القانون الدولي، وقرروا حقوق اللاجئين وأصول حمايتهم ونجاتهم وخلاصهم، وأعادوا إلى الإنسانية بعدها وإشراقها وقالوا الإنسان أخ الإنسان أحب أم كره.

إنهم يتسابقون اليوم للولاء للجموح الإسرائيلي، فيعددون أسماء مائة أسير تحتجزهم حماس، ولكنه يذكرون بحياء وخجل ستة آلاف شهيد ومدينة تتدمر بالكامل، وشعب ينسحق، ولا يمكنهم أن يذكروا مأساة شعب فلسطين إلا برمي الشتائم المعلبة ضد حماس، ثم يعتبرون الصفعة التي تلقاها الإسرائيليون يوم الغفران غفراناً لذنوبهم السابقة وإحصاناً من جرائمهم اللاحقة، وإن مما أردك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.

لمصلحة من يذرفون الدموع على ضحايا إسرائيل ويبصقون الدم على ضحايا فلسطين؟.

إنه لأمر مر أن نعترف بأن هذه الشعوب التي تغلي بالغضب اليوم وتتجرع مرارة الذل والظلم، لن تنتهي في قلوبها المآسي والأحقاد، بل هي تتجرع يوماً بعد يوم ثقافة الانتقام، ولعل أصدق وصف لدورة الكراهية والانتقام هو ما خلده أحمد شوقي في أبياته الهائلة التي خلد فيها استشهاد عمر المختار:

ركزوا رفاتك في التراب لواء…  يستنهض الوداي صباح مساء

يا ويلهم ركزوا رفاتاً من دم… يوحي إلى جيل البغضاء

ما ضر لو جعلوا العلاقة في غد… بين الشعوب محبة وإخاء

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني