مآلات الظاهرة البوتينية
منذ الساعات الأولى لغزوة جيش بوتين أراضي أوكرانيا الدولة المستقلة ذات السيادة، دخل العالم مرحلة جديدة سيرتسم عند نهاياتها نظام دولي مختلف عن النظام القائم، وستغيب البوتينية عن المشهد السياسي الروسي والعالمي إلى غير رجعة.
لقد شكّلت البوتينية ظاهرة سياسية مقلقة للولايات المتحدة والغرب عموماً منذ صعودها، والتي جاءت رداً على تفكك الاتحاد السوفييتي عند أعتاب العشرية الأخيرة من القرن الفائت وانحسار الجغرافيا التي كان الروس يحكمون السيطرة عليها تحت عنوانه الكبير، وما لحق بروسيا تالياً من ضعف وهوان جعلها دولة منكسرة تبحث عمن يعيد الاعتبار لها في الوجدان الروسي وعلى المسرح العالمي فوجدت في بوتين ضالتها وهو المغمور بين الآلاف من رجالات الكي جي به.
إن الدولة العميقة في روسيا التي ظلت قابضة على مقاليد الأمور رغم الانهيار الدراماتيكي للاتحاد السوفيتي المترامي الأطراف بحكم أنها الوريثة لـ 22 وكالة أمنية واستخباراتية بما فيها المؤسسة العسكرية ذات التقاليد المتأصلة في الحياة الروسية منذ العهد القيصري هي التي قررت المجيء ببوتين على رأس السلطة في روسيا واعتباره المنقذ والمخلص.
ومنذ دخول بوتين أروقة الكرملين كموظف صغير بداية، وضع نصب عينيه مهمة إيقاف الانهيار للدولة ومؤسساتها البيروقراطية ووضع حد لحالة التدهور الاقتصادي وضبط إيقاع المافيا وتغولها لإيصال رسالة لمن يهمه الأمر، أن روسيا حيّة وستعود من جديد إلى مسرح الأحداث العالمي كقوة عظمى وما على الآخرين إلا أن يحسبوا لها الحساب الذي يليق بمكانتها التاريخية! لذا استعاد بوتين من التاريخ أمجاداً نسبها للأمة الروسية استناداً إلى رؤى ألكسندر دوغين ومن سبقه من غلاة القوميين الروس وكذلك موقف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي ترى في بوتين الراعي لمصالح الأمن القومي الروسي والحامي للشعب الروسي من تأثيرات ثقافة الغرب التي يرى فيها بطريرك موسكو وعموم روسيا “كيريل” أنها الشر المطلق.
وكيريل هذا الذي يرى فيه بعضهم الملهم الديني لبوتين والمتوافق معه حول ضرورة بعث الإمبراطورية الروسية الغابرة من جديد عبر رفع العصا الغليظة بوجه العالم، حتى أنه أطلق على غزوات بوتين التدميرية والدموية، الحروب المقدسة، حيث بوتين من وجهة نظرة هبة إلهية من الرب لروسيا الجريحة في كرامتها والمستهدفة في وجودها.
من هنا نستطيع أن نرى تماهياً ما بين النزعة النازية التي استندت للعزة القومية الألمانية في ثلاثينيات القرن العشرين رداً على هزيمة الألمان في الحرب العالمية الأولى.
إن النزعة البوتينية المتمثلة بإعادة العالم للاعتراف بروسيا ودورها العالمي ومحو عار انهيار الدولة السوفييتية وما تلاها من تهديد وجودي للأمة الروسية بل الاتحاد الروسي برمته والعمل وفق رؤية الفريق الذي يوسوس بعقل بوتين على الدوام داعياً إياه لبناء قوة أوراسية عظمى تكون روسيا قاطرتها وذلك عبر إدماجها مع الجمهوريات السوفييتية السابقة.
إن رؤى وتحليلات المراقبين والمتابعين للشأن الروسي منذ بداية تسنم بوتين للسلطة في روسيا كانت مختلطة بسبب نهجه الملتبس حيث كيف يتفق النهج الليبرالي مع الاستبداد السياسي وسطوة الطاغية الأوحد؟.
إننا نرى أن الأوليغارشية التي استحوذت على أصول الدولة السوفييتية بعد الانهيار غير مستعدة للسير نحو الانفتاح على المجتمع في الداخل وعلى الآخرين في الخارج خصوصاً أن لا إرث تاريخي سابق وحقيقي لنهج ليبرالي في روسيا وبالتالي فمن غير المأمول ان تنزع سلطة مافيوية تريد الاستئثار بثروات روسيا ومقدراتها نحو السير في طريق الانفتاح الاقتصادي والسياسي والنهج الليبرالي الذي سار عليه الغرب الرأسمالي.
إن الخشية من انتصار الديموقراطية لدى الجار الأوكراني أخاف بوتين والمحيطين به كافة، خشية انتقال عدواها للاتحاد الروسي ولذا لم تتوقف محاولات الروس لإرباك التجربة الديموقراطية في أوكرانيا والعمل على إجهاضها.
إن الحسابات الخاطئة لبوتين وللمحيطين به بخصوص قرار غزو أوكرانيا يوم 24 شباط/فبراير الماضي كان ناتجاً عن مواقف الغرب الرخوة تجاه النهج البوتيني منذ غزوته الأولى لجورجيا في 8 أغسطس/آب من عام 2008 حيث يعد ذلك التدخل بمثابة العملية العسكرية الأولى لروسيا خارج أراضيها منذ تفكك الاتحاد السوفييتي ليتمادى إثرها بوتين وبنزعة طاووسية تستند للبلطجة والابتزاز وسياسة الأرض المحروقة بسحق الشيشان ثم احتلال وضم شبه جزيرة القرم وتأجيج النزاع في منطقة الدونباس عام 2014 ثم التدخل في الشأن السوري وارتكاب الفظائع بحق المدنيين العزّل نصرة لدكتاتور الشام ومن أجل الوصول للمياه الدافئة وهو الحلم القيصري القديم.
إن اجتياح الأراضي الأوكرانية من قبل جيش بوتين رغم التحذيرات الواسعة من الغرب جعل حرب بوتين على أوكرانيا مصيدة حقيقة لصاحب هذا النهج المغامر والمتطرف والذي سيفضي إلى متغيرات كبيرة في المشهد العالمي اللاحق حيث العقوبات التي فرضت على روسيا سوف تخنق الاقتصاد الروسي والذي يفتقر بالأساس للمرونة والديناميكية وسيعرض القدرات العسكرية الروسية للاستنزاف بفعل الدعم العسكري الغربي المتنامي للجيش والمقاومة الأوكرانيين وإننا نرى أن الأوكرانيين الذين يخوضون حرباً ضروساً دفاعاً عن وطنهم وتجربتهم الديموقراطية الوليدة ونيابة عن الغرب، كل الغرب دفاعاً عن القيم الديموقراطية وأن عالم اليوم لن يسمح بإعادة إنتاج هتلر جديد يهدد الأمن والسلم العالمين وأن بوتين لن يستطيع الاستمرار في حربه العدوانية هذه وما تصريحاته ووزير خارجيته منذ أيام حول موضوع التفاوض سوى مؤشراً على إنهاك حقيقي أصاب جيشه بأسلحته المتقادمة التي لا يمكن أن تقارن بالسلاح الغربي وتقاناته العالية، إلى جانب ما تحصل عليه أوكرانيا من معلومات استخباراتية لا تقدر بثمن وعلى مدار الوقت والتي سيكون لها دوراً كبيراً في دفع الكرملين نحو الخروج السريع من المستنقع الأوكراني وقد نشهد خلال الصيف القادم إما قيام المؤسستين العسكرية والأمنية في روسيا بعزل بوتين وفتح قنوات التفاوض مع الأوكرانيين وداعميهم من أجل الخروج من الورطة التي وضعهم فيها شرط أن لا تتعرض روسيا لمزيد من الإذلال وعلى أن تُرْفَع العقوبات الاقتصادية التي ستخنق الاقتصاد الروسي إن استمرت، أو الذهاب في هذه الحرب إلى نهاياتها وما ستشكله هذه النهايات من تحطيم للاتحاد الروسي وتفككه وجعله أسير الوصاية الغربية، وإننا لعلى ثقة بأن الأوكرانيين سيحررون الأجزاء التي اقتطعت من أرض وطنهم وسيساعدهم الغرب في إعادة بنائه من أموال المافيا الروسية المودعة في خزائنه وستدخل روسيا في عنق الزجاجة والتي قد تتعرض لخطر وجودي حيث ستتغير ملامح النظام الدولي القائم باتجاه المضي نحو عالم أكثر دمقرطة وانفتاحاً وتحرراً من نهج الديكتاتوريات المغامرة وجرائمها.