لغة الشعر العربي المعاصر
ليست اللغة مجرد تشكيل رمزي لمقاطع صوتية، كما أنها ليست تلك الكلمات التي تتشكل منها الرموز الأبجدية المجردة خارج سياق منشئها ودلالتها، لكنها أداة مشكلة للواقع تجسد التصور إليه حسب قصد مستعمليها، إذ لا تعبر عن صفة الأشياء والأفعال فقط، بل تحمل تأثيراتها أيضاً، ثم إن اللغة تعبير عن مفهومنا الشخصي للعالم، وللذات، وللآخر، وهي حامل معرفي يصلنا بما قبلنا، ويمثل طباعنا وسلوكنا، بما يعكسه من تأثير إيحائي لحركة الشعور والانفعال.
فاللغة بوصفها علاقات لا ألفاظاً مفردة تتحرك فيها المشاعر والأفكار والأخيلة هي بنية الشعر الرئيسية، ومنها بل من طريقة تشكيلها تفرعت البنى الأخر.
ويبدو أن إدراك أهمية التشكيل اللغوي في الشعر قد ازداد وضوحاً مع نشأة علم اللغة ؛ باتخاذ معطياته ركيزة لتحليل بنية النص، فالشعر كامن في القصيدة، وذلك مبدأ ينبغى أن يكون أساسياً، فالشاعرية كعلم اللغة موضوعها اللغة فقط، الفارق بينهما أن موضوع الشعرية ليس اللغة على وجه العموم، وإنما شكل خاص من أشكالها؛ إذ لا تتحقق للقصيدة خصوصية الشعور إلا من خلال خصوصية التعبير؛ لأن كل عمل أدبي إنما هو كلام ينتمى إلى اللغة، ولكنه يتميز عنها بخصائص فريدة تدخله في حدود الفن، ولكونه لغة فهو يخضع لقوانينها الوضعية، ويتكون من مفردات هي بمثابة الدوال على معان ٍ جزئية تكتسب دلالتها وبلاغتها حين تدخل في علاقات تركيبية مع غيرها من الألفاظ.
“والمفردة اللغوية بكينونتها الشعرية هي نقطة البدء، أي إن محور الاختيار هو بداية السياق، منه يستمد ملامح حركته ووظائفها، وبمعنى آخر شعر يته، ويأتي التركيب أو محور التوزيع ليكون مسرح الفعاليات السياقية التي تخلق فضاءً نصياً فاعلاً هو الآخر في توجيه حركة السياق الذي تتأكد – في هذه المرحلة من نموه – ملامحه وطبيعة وظائفه”.(1)
وظاهرة الاختيار التي تميز النص الأدبي، وتنفى عنه صفة العفوية تؤكد ميزة الانتقاء من الرصيد اللغوي، كذلك ظاهرة التوزيع تلك التي تحكم هيئات التجاور بين الكلمات، مما يدخلها في علاقات دلالية متشابكة تدعو الباحث المحلل للنص الإبداعي إلى الوقوف على تكوين البنية من حيث الظواهر التركيبية، أو التراكيب المحورية أو التراكيب المجتزأة، وغير ذلك من الظواهر التركيبية التي لا يمكن تفسيرها إلا من خلال وحدة النص.
“لقد أصبح النظام الفكري للغة ذا مكانة خاصة عند النحاة والأدباء على مستوى المفردة أو على مستوى الجملة، وكل تغير أو تبدل في تركيب الجملة إنما يرجع إلى المعنى ومتطلباته، أو بمعنى آخر فإن المعنى هو الذي يتطلب هذا التغير والتبدل، وما المعنى إلا علاقة بين الرمز والمدلول، وهذه العلاقة قد تكون طبيعية بعيدة عن المنطق والعرف كإدراك جرس الكلمات والوزن والقافية، وقد تكون العلاقة عرفية كالعلاقة القائمة بين الألفاظ ومدلولاتها، وقد تكون منطقية كالعلاقات النحوية كالفاعلية والمفعولية والخبر والإنشاء”.(2)
إن نواة التحليل التركيبي هي الدلالة، إذ هي الهدف النهائي من دراسة الأنساق اللغوية، لذا يعد من الصعوبة بمكان دراسة كل من الدال والمدلول على حدة؛ لأن كل تجزئة لهما هي تجزئة للعلاقة بينهما، ومن ثم فإننا لا نغفل العلاقة بين تراكيب البنية الشعرية وبين المستوى الدلالي، فالهياكل التركيبية والمعنوية متصلة فيما بينهما اتصالاً شديداً.
ولما كانت العلاقات النحوية العميقة هي المرجع في كشف خفايا البنية الدلالية وتجسيد الرؤية الشعرية، بوصفها الوسيط بين المبدع والمتلقي لفك شفرات الرسالة الإبداعية وكشف وجوه الإبداع الشعري، فإن الوصول إلى دلالة التركيب يتم على مستويين، المستوى الأول: هو دلالته الظاهرة والمستوى الثاني هو دلالته داخل البنية الشعرية التي تربط الشكل بالمحتوى سعياً لاكتشاف أغواره.
“وإذا كان الشاعر يختار القانون النحوي الذي يناسب حالته النفسية والمعاني التي يقصدها، فإن القارئ – إذا تجاوب واتفق معه في الموقف والشعور – يكون قادراً على اكتشاف طريقة البناء الخاصة للقانون، سواء في التزام الأصول أو العدول عنها، وللنحو في كلا الحالين نشاط حيوي وفعال في أداء المعنى”.(3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد فكرى الجزار: لسانيات الاختلاف /155
(2) محمد عبد المطلب: البلاغة والأسلوبية / 41، 42
(3) مصطفى السعدني: قراءة المعنى الشعري ” رؤية حديثة “– منشأة المعارف – إسكندرية – 1994 م – ص 7
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”