لبنان في ذكرى انتفاضته الوطنية
مرت يوم أمس السبت السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر الذكرى الأولى للانتفاضة الوطنية اللبنانية التي قادها الشباب المتأثر بالحال الاقتصادية السيئة التي كشفت معاناة لبنان واللبنانيين الفعلية التي تعود إلى نظام طائفي/تحاصصي هو في النتيجة مجموعة من اللصوص المتفقين ضمنياً على نهب الشعب اللبناني كل بحسب قوته ونفوذه، فلا دولة ولا يحزنون، وهو البلد الذي عرف الوعي النهضوي الوطني منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإنتاج ثقافته عبر طليعة وطنية مثقفة لعبت دوراً رائداً في التنبيه إلى يقظة معاصرة تتجه إلى بناء دولة وطنية معاصرة تأخذ بنواصي حياة مدنية تقوم على العلم والمعرفة المجتمعية الحديثة وتؤمن بحرية الفرد وتقود إلى تنمية شاملة على مستوى السياسة والاقتصاد والمجتمع عموماً..
وإذا كان لبنان قد ابتلي بالاستعمار الفرنسي جرَّاء اتفاقية “سايكس بيكو” التي وُقِّعت سراً وغدراً بين الفرنسيين والإنكليز، وهما من الدول الكبرى التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الأولى فإن لبنان كان أول دولة تنال استقلالها عام 1943 بفضل وعي شعبها السياسي، ولتغدو في وقت قريب من أرقى الدول العربية، إذ نما اقتصادها نسبياً بالقياس إلى قلة مواردها. وقد وجد فيها العرب، كما الغرب، تقاطع مصالح، ونشطت فيها السياسة كما الثقافة لما تمتعت به من حريات سياسية ساهمت بنشوء أحزاب وطنية متنوعة المشارب والأيديولوجيات، رافقها ازدهار لصحافة حرة، ومعاملات بنكية واسعة، وقد استضاف لبنان، بعد النكبة الفلسطينية، كما البلاد العربية المجاورة لفلسطين، أعداداً كبيرة من المهجرين لعبوا دوراً في إذكاء الشعورين الوطني والقومي، ما قوَّى الحركة الوطنية اللبنانية الناهضة لتغدو في سبعينيات القرن الماضي قوة يعوَّل عليها في الحرية والتحرر إذ دعمت الحق الفلسطيني، وحاولت إعطاء الحرية اللبنانية القائمة على أساس طائفي (حرية الطوائف وقادتها) أبعاداً وطنية معاصرة، الأمر الذي أرعب القادة التقليديين، فذهبوا إلى تعميق الحال الطائفية، مستعينين بهذه الجهة أو تلك.. حتى إن بعضهم لم يخجل من سعيه إلى الاستعانة بإسرائيل، في حين سعى آخرون للاستعانة بإيران، بعد أن نجحت فيها ثورة ذات صبغة إسلامية (شيعية) استغلتها للنفاذ إلى البلاد العربية عبر إعلانها عن تبني القضية الفلسطينية، وقد أوجدت لها موطئاً في لبنان عبر حزب الله الذي أخذ يعلن بصراحة ووضوح تامين، أنه أجير عند ولي الفقيه الإيراني، وأنَّ حياته مرتبطة به، ولا شك في أن السعودية لعبت دوراً في تبنيها للطائفة السنية، في حين تبنى حافظ الأسد، الذي دخل بتوافق دولي، الدفاع عن بعض الطوائف الأخرى وكانت له أطماع مباشرة في وضع لبنان تحت جناحه، كل ذلك ساهم في إطفاء تلك الجذوة الوطنية قبل اكتمال سيرورة كينونتها.. وتفرد الأسد وحده فيما بعد بالشراكة النسبية مع حزب الله فبسطا نفوذهما محتلين لمجمل لبنان مع تميُّز دور الأسد بجيشه وما ارتكبه من موبقات.. وقد جاء اغتيال رفيق الحريري على يدي حزب الله، وليكون الاغتيال سبباً مباشراً لخروج الأسد الابن، وبقاء حزب الله حاكماً متفرداً، ما يعني أن إيران غدت النافذ الوحيد في لبنان، بينما ظل لبنان مجالاً لنهب زعمائه إلى أن وصل في عهدة حزب الله وحليفه الأساسي التيار العوني إلى الانهيار التام على غير صعيد، حتى أبسط القطاعات الخدمية وهو قطاع النظافة الذي كشف عن فساد لا مثيل له في العالم رافقه بالطبع انهيار في الليرة اللبنانية إلى مستوى لم تشهده في تاريخ لبنان الحديث فكل ثمانية آلاف ليرة لبنانية بدولار واحد بينما كان الدولار في ستينيات القرن الماضي يعادل أقل من ليرتين اثنتين.. كل ذلك جعل الشباب اللبناني يهب إلى انتفاضة شاملة أرعبت الطغمة الحاكمة وأذهلت الشارع العربي، وأعادت له ثقته بما عرف قبل عشر سنوات بالربيع العربي الذي تعثر في كل من مصر وسورية وليبيا.. وكان شعار الانتفاضة: “كلن يعني كلن” ما يعني الطلب بتنحي حكومة الطوائف، وذلك الاتفاق الإقليمي الذي عرف باتفاق الطائف الذي أقر في 22 تشرين الأول/أكتوبر من عام 1989 ونصَّ في مقدمته على العمل لاستعادة الدولة الوطنية بديلاً عن طابع المحاصصة التي ميزت ذلك الاتفاق. ويبدو أن مرور ثلاثين عاماً لم يكن كافياً لاستعادة الدولة الوطنية المعاصرة إذ إن أسلوب المحاصصة بدا مريحاً فهو بوابة للفساد، ومع ذلك فقد اختل التوازن السياسي الطائفي بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وازداد حجم الفساد الإداري.. ثم يأتي انفجار بيروت المرعب ليكشف حجم الفساد، وغياب الدولة الكلي، وليسقط على نحو أو آخر غطاء المقاومة عن حزب الله، ولتبدأ خفايا هذه الأسطورة التي بنيت على المقاومة وتحرير القدس بالتكشف، ولتسقط معها لون الحرية الخاص بلبنان إذ وقف الحزب ضد أي تقدم سياسي أو اجتماعي..
والأهم من هذا وذاك أن حالة الضعف التي آل إليها لبنان قد أفسحت في المجال للتدخل الخارجي المباشر، ولتنهض إسرائيل أيضاً، مع هجومها التطبيعي مع العرب ومع اكتشاف غنى السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط بالثروات النفطية، إلى ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية.. وإذا كانت ثمة مصلحة للبنان في هذا الأمر الذي يتيح له استثمار ثرواته تقتضي بذلك، فإنه لا يفاوض اليوم من منطلق القوة، رغم وجود القوانين الدولية، ما يشير إلى أن النهب والفساد، وتغييب القوانين قد أخذ الدولة، في النهاية، إلى تفريغها من محتواها الوطني، ومن استقلالها السياسي..
ومن هذه النقطة بالذات، لم ينس الشعب اللبناني جوهره الوطني، وانتفاضة السابع عشر من تشرين الأول ولذلك تراه قد خرج إلى الشارع بمناسبة الذكرى الأولى للانتفاضة معيداً مطالبه الرئيسة، ومذكراً بأن هؤلاء الحكام لا يعنيهم الشأن الوطني اللبناني، وما عليهم سوى الرحيل.. إذ لم يتعظوا وفشلت حكومتان في وضع لبنان على سكة السلامة الوطنية، ويعتقد أن التكليف الجديد لسعد الحريري لن يخرج الزير من البير إلا إذا قبلت الأطراف بتشكيل حكومة وطنية مستقلة عن الطوائف وتذهب إلى انتخابات مبكرة وفق صياغة قوانين جديدة تنهي مأساة الشعب اللبناني وتأخذه إلى حياة جديدة يستحقها..
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”