كيف يصبح الشمال السوري المحرر نموذجاً للاستقرار؟
سنوات عديدة مرّت، منذ بسطت الفصائل العسكرية للثورة نفوذها في مناطق شمال سورية (درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام)، إضافة إلى بسط هيئة تحرير الشام نفوذها على محافظة إدلب.
وجود الفصائل العسكرية لم يحوّل هذه المناطق إلى مناطق استقرار اقتصادي واجتماعي وأمني، ولذلك بقيت عرضة للانتهاكات الأمنية، التي لا تجري في مناطق نفوذ أخرى، مثل مناطق شمال شرق سوريا (مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية)، أو في مناطق النظام، باستثناء الغارات الجوية الإسرائيلية، التي لا تستهدف المدنيين، وإنما هدفها الوجود العسكري الإيراني على الأرض السورية، وكذلك الأمر في مناطق نفوذ هيئة تحرير الشام، باستثناء معارك محدودة بين الهيئة وفصائل إسلامية أكثر راديكالية.
فلماذا غاب الاستقرار الفعلي عن هذه المناطق، ولماذا فشلت في أن تكون أنموذجاً لهذا الاستقرار؟ علماً أنها تمتلك شروطه، ولكنها لا تمتلك إدارته.
إن وجود الفصائلية لا يزال مستمراً، رغم القول بوجود حكومة مؤقتة، لديها وزارات، ومنها وزارة الدفاع، ولكن لا سلطة فعلية لهذه الوزارات على الأرض، وهذا يظهر في إدارة المناطق، فمثلاً منطقة الباب توجد بها معابر على عدد الفصائل العسكرية الموجودة في هذه المنطقة، المعابر للتجارة وعبور الأشخاص، ولكن لا يوجد تنسيق مركزي يتحكم بحركة هذه المعابر، ولهذا يمكن لجهات معادية، أن تستفيد من هذا الشرخ الكبير في الجدار الأمني، وهو ما يحدث من وقت إلى آخر، ويسبب حالة عدم استقرار للسكان.
إن تقسيم مناطق الشمال المذكورة إلى مناطق نفوذ للفصائل، يعني بالدرجة الأولى وضع هذه الفصائل خارج الدور الفعلي الذي تشكلت لأجله، فليس معقولاً في ظل حكومة مؤقتة، أن تستلم الفصائل المعابر، أو مسائل الأمن الداخلي، أو مسائل مكافحة الاختراقات والتجسس.
إن مطلب تحويل مناطق الشمال السوري بأكمله، بما فيها محافظة إدلب، إلى منطقة استقرار سياسي واجتماعي، واقتصادي، ومعيشي، يتطلب تغيير قواعد إدارة هذه المناطق، وأول تغيير له قيمة وأثر على مجمل الأوضاع، هو توحيد الفصائل في جيش وطني حقيقي، وليس مجرد تجميعٍ لها فحسب، كذلك يتطلب الأمر، جعل المسألة الأمنية مسألة قوة مركزية واحدة متخصصة، ولديها بنك معلومات، وعناصر مدربة، أو يمكن تدريبهم وفق طرق وأساليب وأدوات متطورة.
هذا الجانب العسكري الأمني متى تمت عملية مركزاته فإن الأمور ستتغيّر نحو الاستقرار شيئاً فشيئاً، هذا التغيّر له مرتكزاته، ما يجعل مؤسسات الحكومة المؤقتة مؤسسات فاعلة، تعمل وفق أنظمة محددة، وتحت قيادة سياسية واحدة، هي قيادة قوى الثورة والمعارضة.
وكي لا نقع بأوهام مثالية، فهذه الخطوات، لا يمكن للفصائل وقوى الثورة بوضعها الحالي أن تقود عملية هذا التغيير، بسبب ضعف قدراتها من جهة، وبسبب طغيان حالة الفصائلية، ذات المنفعية من جهة ثانية.
ولهذا، ثمة مقاربة للانتقال باتجاه التغيير، هذه المقاربة، تتطلب تدخلاً من الحكومة التركية، فهي الجهة الوحيدة التي يستمع لنصائحها جميع أطراف المعارضة، فوجود حكومتين واحدة باسم المؤقتة وأخرى باسم الإنقاذ، يعني ببساطة أن ثمة خللاً خطيراً يهدّد كل هذه المناطق نتيجة انقسامها، فكيف إذاً يكون الأمر بوجود عشرات الفصائل التي تحتكم إلى السلاح في حل خلافاتها فيما بينها، ما يعطي يقيناً لدى أعداء الثورة السورية، بأن هذه ليست فصائل ثورية، بل فصائل ذات امتيازات محدودة، تخصّها بمفردها، ولا تخدم الشعب السوري.
إن دعوةً من الحكومة التركية، إلى إعادة مركزة القرار العسكري والأمني، بصفتها تدافع عن الشعب السوري، وتستضيف على أراضيها قرابة أربعة ملايين منهم، وتحمي أكثر من هذا العدد في داخل مناطق الشمال عموماً، سيساهم في إيجاد قاعدة استقرار وبالتالي قاعدة نشاط سياسي وطني ديمقراطي، يكون نموذجاً عملياً لكل السوريين.
هذه الخطوة يجب أن تتبعها خطوة توحيد الحكومتين وفق جدول زمني، وكذلك توسيع قاعدة التمثيل في مؤسسات الثورة والمعارضة الرسمية.
إن التغلب على الاختراقات الأمنية الخطيرة بحق سكان الشمال السوري، يقود بالضرورة إلى بدء الاستقرار، ويسمح بالاستثمار الاقتصادي، والاستثمار العلمي، وخلق فرص عمل واسعة تسمح بردم هوة الفقر والحاجة إلى المساعدات.
إن خلق الاستقرار في الشمال السوري برمته، يشكل قاعدة حماية له وللأشقاء الأتراك من أي اختراق أمني أو عسكري، ويساعد في نزع صفة (الإرهاب) عن بعض الفصائل المدرجة على اللوائح الدولية.
وقبل القيام بكلّ هذه الخطوات، يمكن التواصل مع القوى الفاعلة في المجتمع الدولي، لإقناعها بأهمية هذه الخطوات، لتحويل شمال سوريا وشمال غربها إلى مناطق استقرار يحتذى بها.
هذه الرؤية المقترحة يمكن مناقشتها في أوساط مؤسسات قوى الثورة والمعارضة، ويمكن تلمّس الأفضل والأقرب للتنفيذ، فليس هناك حالة تولد بصورة مثالية، بل تولد ويبدأ العمل على التشذيب والتهذيب فيها.
فهل ستحمل قوى الثورة والمعارضة هذا المقترح بجدية، أم هناك ما يشغلها عنه؟ إنه اقتراح قابل للتطوير والتغيير، والمهم هو خلق استقرار جدي في مناطق الشمال السوري برمتها، وليس العمل على إلقاء خطب نارية لا تغني أو تسمن.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”