كيف أصبحت وظيفة المدرس اليوم
حمل التدريس خلال مئة السنة الأخيرة من العظمة والأنفة ما جعلها تتعلق بفئة محددة من السكان، ما لبثت أن تحولت إلى أخطر وأهم وأكبر فرع من الفروع التي تخدم البشرية جمعاء. خاصة وأنها من المهن الأكثر قِدماً وشرفاً، تمتد من فجر التاريخ حتى يومنا هذا، لما لها من أهمية في المجتمع. وبشكل أدق فإن المدرسين الساعين صوب خلق أجيال من الفكر والمعرفة، ما عليهم أولاً سوى استلهام المثل العليا التي يمكن أن تجمع التناقضات المجتمعية في الغرفة الصفية، وتحويلها إلى جسر للتواصل بديمومة واضحة. وتالياً يكونون حملة القيم والأخلاق، وناقلين للعلم والمعرفة والضوابط الاجتماعية والسلوكيات الواجب على الطالب أن يحملها. وبذلك تكبر وظيفة المدرس من نقل وتعليم ما يفكر به إلى بث القواسم المشتركة التي تكون نافعة للمجتمع.
أيّ إن واجبات المدرس لا تخلو من ضرورة حمله للمعرفة والحكمة، لجعل الناس، الطالب، أولياء الأمور يصغون إليهم. فسابقاً كان المدرسون ينتمون إلى مهنة منظمة بنواظم وقوانين، في ظل أنظمة سعت جاهدة لتكريس التبعية والجهل في صفوف الأوساط التعليمية والاجتماعية. بل تجاوز الأمر إلى محاسبة المبدعين وأصحاب الفكر النير، كما حصل عبر الحكم على سقراط بالموت، وألقي بأفلاطون في غياهب السجن. مع ذلك فإن أفكارهما وعقيدتهما تناقلتها الأجيال إلى يومنا هذا. بل إن فلسفاتهم أضحت النسق والإطار التاريخي لأغلب الأطروحات الأكاديمية والدراسات المحكمة في مختلف المجالات، ما عنى ضرورة الاستفادة من الحوادث التاريخية لتهيئة المدرسين. فهم اللبنة الأساس في العملية التعليمية من حيث ضرورة حملهم القيم التربوية والسلوكيات والأفكار والمعارف، يضاف إليها تحول الطالب من متلق للمعلومة إلى مشارك ومحور العملية التعليمية. وهو ما يعني ضرورة شعور المدرس بالاستقلال الفكري الذي يعتبر جوهر إنجاز وظائف المدرس الخاصة. المدرسون المتمكنون من خلق بيئة تعليمية ويعيشون ظروفاً مادية لا تجبرهم على التفكير في كيفية تأمين قوتهم اليومي، هم الذين يمكن أن يقوموا بأي تأسيس معرفي ضمن التربية والتعليم.
إضافة إلى أن الشعور بالاستقلال الفكري، من شأنه أن يحمل المدرس على بث ما يستطيع من معرفة وحكمة إلى عملية تشكيل الرأي العام. خاصة وأن النماذج التاريخية كثيرة التي أثبتت أن المدرس كان يقوم بمهمته دون عوائق، لولا تدخل الطغاة ومعهم جيش الرعاع. كما حصل في القرون الوسطى، حيث احتكرت الكنيسة امتياز التعليم وهو ما أدى إلى تقديم الفكر والتواصل الاجتماعي بالحد الأدنى. في حين شهد عصر النهضة احتراماً شاملاً للتعليم كسبيل لعودة قدر كبير من الحرية للمدرس، وبالرغم من أن محكمة التفتيش أحرقت جوردانو برونو وأجبرت غاليليو على إنكار ما قاله، لكن كان كل واحد منهما قد أنجز عمله قبل أن يعاقب.
وفي تلك الفترة استطاع أصحاب العقائد التربوية من المدرسين السيطرة على الجامعات والمعاهد والمدارس، فأنشأت أفضل وأعظم الآثار الفكرية على يد رجال التعليم المستقلين.
الغريب في الأمر أنه وبعد كل التطور السائد أن تؤول التربية والمدارس إلى حالات يرثى لها، وبعد التنظيم الذي شهده العالم فإن المدرس في مجتمعنا قد أصبح في معظم الحالات موظفاً مجبراً أن ينفذ الأوامر للرجال الذين لا يحوزون على ثقافته، دون أي اهتمام بالبحث في كيفية إنجاز المدرس في هذه الظروف الوظائف المطلوبة منه.
لكن إحدى أكبر المعضلات التي قيدت المدرس في وسطنا الذي نعيش فيه اليوم. كانت عدم وجود روابط بين الطلبة السوريين على اختلاف خلفياتهم الإثنية والقومية مع غياب الوظيفة الجامعة في هذه المناهج، حيث كانت القومية التعصبية، العربية، أكثر الأمور توكيداً في المناهج السورية وترسيخاً في تعليم الشباب ولأغلب المراحل التعليمية. ونجم عن ذلك أن الطلاب حتى في الصف الواحد والمدرسين ضمن المدرسة الواحدة، لا يملكون قاسماً مشتركاً مع غيرهم من الخلفيات المختلطة، وتالياً غياب الحضارة المشتركة تقف في وجه الشراسة الإلقائية. لكن الأخطر اليوم هو الانقسام الأفقي والشاقولي بين الطلبة الكُرد أنفسهم. وانقسامهم على ذاتهم وما عادوا يملكون قواسم مشتركة وهم أبناء قومية واحدة وشعب واحد، نتيجة انقسامهم بين منهاجين، حكومي بما فيه من أدلجة، وإدارة ذاتية بما فيه من مساعٍ حزبية للسيطرة. وهي – مناهج الإدارة الذاتية – مستمرة في عملها وفي خطاً متسارعة ومستمرة منذ فرضها في2015، دون تقديم ما يمكن لتحويلها إلى إطار جامع لكل الطلبة ضمن هذه الرقعة الجغرافية، وبعد الانقسام بين الطلبة ضمن صفوف الحكومة السورية التي لم تحتو مناهجها على إشارة واحدة للوجود التاريخي لغير العرب في سوريا، ولم تفسح المجال للغات التاريخية عدا العربية، فإن مناهج الإدارة الذاتية التي لابد وأن تتحول إلى حالة طبيعية لجهة وجود مناهج باللغة الكردية ضمن إطار توافقي، هي الأخرى لم تهتم بالانقسامات التي ظهرت ضمن الوسط الاجتماعي الكردي، وبل أسهمت الديناميات التي اتبعتها في ضم أو “خلق” مدرسين فاقدين للأهلية التعليمية خاصة خلال الدفعتين الأولى والثانية، فقد ساهمت في الحد والتقليل من أهمية المدرسين وقيمتهم خاصة من التبعية الفكرية، وبشكل خاص فإن الدفاع عن الدولة في كل البلدان المتحضرة في أيدي المدرسين بقدر متساو مع القوى المسلحة.
من الواضح أن الروح الحزبية في المناهج هي من أعظم الأخطار المحدقة بالطالب والمدرس والتربية. ما يشكل عائقاً أمام وظيفة المدرس، على المدرس أن يقف على الحياد تجاه الصراعات الحزبية وأن يسعى لبث روح البحث غير المتحيز في نفوس الشباب، كي يحكموا على القضايا بشكل واقعي دون قبول أحكام جاهزة بقيمها الظاهرية. وهو ما يعني أن ينطلق المدرس إلى منطقة البحث العلمي الذي لا يتصف بالعاطفة. ومن حقه التمتع بالحماية ضد كراهية من لا تتفق نتائجه وميولهم الحزبية معه، وإلا فالاستسلام للدعايات غير الشريفة ببث أكاذيب لا تقوم على برهان، قد أخذ مفعوله.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”