fbpx

كوفيد التاسع عشر والكتاب

0 444

لم يكن في بالي، وأنا أستقبل نبأ مقدم شبح الضيف المباغت إلى هذا الجزء من العالم الذي لجأت إليه، هرباً من الاستبداد والحرب، على أنه بلد آمن، أن يفاجئني هناك إمبراطور. سفاح أعظم، تخرُّ له جباه كل دكتاتوريات العالم، صاغرة، ويؤجل كرمى له سدنة الحروب حروبهم، بل إن أقطاب الإرهاب ذاته ارتبكوا بسببه، وتردد أنهم أوقفوا سلسلة جرائمهم إلى إشعار آخر. وما إن بدأ نبأ انتشار النسخة الجديدة من فيروس كورونا المتحول، والمسمى “كوفيد19″، حتى خيل إلى كثيرين من أمثالي في هذه المعمورة أن عمر هذا الفيروس أيام، بل أسابيع جد قليلة، ولابد من اكتشاف أدوية العلاج منه. بل واللقاح الكوني اللازم، وما تدابير الحجر الصحي إلا عبارة عن مزحة منا، لابد من أن نجربها، كما لم يحدث في حياة أحد من جيلنا، بل من الجيلين السابقين علينا، في أقل تقدير!

ما حدث أن الحجر المنزلي الطوعي، الوقائي، الذي بدأنا بتطبيقه، ذاتياً – لأول وهلة – كل بحسب درجة تفاعله مع الأنباء التي انتشرت في كل مكان حول جبروت هذا الفيروس الذي لا يرحم، لاسيما في ظل ارتفاع معدل ملتقطي الفيروس، وضحاياه، في كل مكان، إلى درجة وجود بعض ضحاياه في الشوارع القريبة. في الشوارع التي تضم بيوتنا. في الأحياء التي تضم مساكننا. في المدن التي نقيم فيها. في العمارات التي نقيم فيها، واختطف وجوهاً نعرفها، وباتت الإصابة به تهمة، عبئاً على المحيط. بات يؤكد أننا أمام خطر داهم، وأنه إذا كان ثمة من يجرؤ على المغامرة بذاته فإنه لن يستطيع إلا أن يرضخ، ويذعن، لقوانين الوقاية الصحية العامة، حرصاً على الأهل، الجيران، البلد، العالم. وبات أي خروج على القواعد الصحية المطلوبة ضرباً من الاستهتار، أو الحماقة التي لا يقبل أن يرتكبها إلا من هو فاقد الصواب، منبوذ، يتنكر له أقرب مقربيه.

أمضيت وقتي، شأن كثيرين سواي، في الأيام الأولى بقراءة وتلقي ما يكتب وينشر ويبث عن الفيروس الجديد “كوفيد19” وبطشه الأسطوري، غير المسبوق، في التاريخ، باعتباره استطاع أن يدخل الرعب إلى قلب كل ذي بصيرة، ما جعل الكرة الأرضية عبارة عن محجر في بناية واحدة، وباتت ملاحقة مؤشر الخط البياني لضحايا هذه الجائحة شأن كل حريص، ومحب للحياة، لذاته، لأهله، لوطنه، لمكانه، للعالم كله. وبدأ مؤشر الهلع من هذا الفيروس يرتفع في محطات عدة، عندما قرع جرس الإنذار رؤساء وقادة عالميون. كل بلغته، إذ منهم من قال: إنه سيتم التنكب بكثيرين عاشوا قربنا، بل ثمة من تحدث عن ملايين الوفيات في بلده، أو ثمة من قال ما معناه: استنفدنا إرادة الأرض في مواجهة هذا الفيروس وبتنا بانتظار إرادة السماء، وكانت عيناه تنزان دمعاً كما الدم، ناهيك عن أن أكثر من رئيس دولة عظمى ساوره الرعب، وانهار هلعاً، وكان قبل أيام، قبل ساعات متمظهراً بأنه مصدر الرعب في وجه كل من يخرج عن الخطوط التي يرسمها للعالم، أو كل من لا يشاء له الحياة!

إذاً، لسنا، كما كان بعضنا يتوهم، أمام فيلم فكاهي، كما كان بعض قصار النظر، يتوهمون، أو يوهمون، عبر الترويج لذلك، وإنما نحن أمام فيلم رعب كوني، لا أحد يتكهن بنهايته، لاسيما في ظل الإعلانات المتتالية عن عدم إمكان اكتشاف اللقاحات والأدوية، والتحدث عن جدول زمني لا ينتظر هذا الفيروس مجيئه، لأنه على عجلة من أمره، لاسيما بعد أن بسط شبكة اصطياده، على اتساع المعمورة، وبات لا أحد في منجى منه. إنه على باب منزل أي منا، في انتظار الانقضاض علينا. إنه متسلل تحت ثيابنا. لصق أصابعنا، وأكفنا، وأنوفنا، وأعيننا، ودرجات بيوتنا، ومصاعد العمارات التي نقطنها. إنه في الطائرات، وفي البواخر، والقطارات، والترامات. في المدارس. أماكن العمل. في الهواء. يتسلل حتى من ثقوب الكمامات، ويعلق في الهواء ساعات، وهو فارد أطرافه للفتك بأي كان!؟

ثمة طقس جديد، مناخ عام، غدونا في مواجهته، ولابد لكل امرئ. لكل رب بيت. لكل فرد.. لكل من يدعي الوعي، أن يوجد لنفسه، ولمن حوله، ضمن دائرته الضيقة، أو الواسعة، ما ينبههم إلى الخطر المحدق، من جهة، بل وأن يحاول معهم مواجهة حالة الحجر المقيت التي لا يطيقها أغلبنا، بل يرفضها جميعاً، بما يرتب ذلك علينا عدم الالتقاء بأحد، واعتبار كل شخص، كل مكان، كل حاجة، كل طعام، موبوءاً، موضع تهمة، مصدراً، لفيروس الزوال الآدمي. من هنا، حاولت قدر الإمكان، أن أعود في البيت إلى مجرد أب مسؤول عن أسرته، أعين أسرتي على تبديد وطأة الوقت الثقيل، من خلال ما هو ممكن، لا يعرض أحدنا للأخطار الخارجية، لاسيما بعد أن أصبح المحجر الصحي سجناً أسرياً، ليغدو سجناً كوكبياً، نزلاؤه مليارات البشر، وكل منهم في زنزانته، أو منفردته، وأن مصيراً غامضاً مجهولاً ينتظرنا.

اكتفيت في الأيام الأولى – كما سواي – بكتابة بعض المنشورات على صفحتي، بالإضافة إلى كتابة مقالات ذات إيقاع سريع، إلا أنني مع الأيام، وجدت أننا في حرب كونية حقيقية، وأن على كل كاتب أن يؤدي دوره، ويؤرخ لحدث غير عادي تمر به البشرية، إذ إن هذه المهمة ليست تأريخية فحسب، بل لها أكثر من دور، على صعيد محاولة صناعة معادل حياتي، ضمن جدار البيت، وتوسيعه – أنى أمكن – إلى أمداء واسعة، وهو ما يمكن لكل صاحب رسالة القيام به!

تململ الأبناء والبنات، احتجاجات الأطفال، بعد أن تم تعطيل الجامعات، والمعاهد، والمدارس، وأماكن العمل، والأسر في المحاجر، جعلني أستحث من هم في محيطي للاستفادة من شبكات التواصل الافتراضي، ووضع برامج، للتثقيف، وللتسالي، وملء الوقت، وتعميم الفائدة، وهو ما نجحنا به، إلى حد ما، مع وجود بعض المصاعب، كما رحت أكتب بعض يومياتي، وأنشر أكثرها، وأحض من حولي على أن يفعلوا مثلي، لعلنا نرتقي إلى مستوى أسئلة اللحظة الأكثر إحراجاً في التاريخ الآدمي، لاسيما بعد أن لاحت مخاطر جدية، من قبل بعضهم: متشائمين، أو واقعيين: الحياة انتهت على سطح كوكبنا هذا!؟ وثمة من تحدث عن مجيء كائنات أخرى لتعيش بدلاً عنا بعد أن فشلنا في امتحاننا؟!

إضافة إلى هذه اليوميات، رحت أكتب بعض المقالات المطولة. مقالات الرؤى، المختلفة عن اليوميات، وإن كنت سأعتمد خلالها على ما أعيشه، أو يعيشه الآخرون، وأستفيد من الإحصاءات التي تنشر، لأجد أنني كتبت الكثير من هذه المقالات التي لم ترد أن تنافس خبراء الأوبئة، ولا علماء الاجتماع. إنها مقالات الرأي، التي تشبه رؤيتي لما نحن عليه، وما ينتظرنا من مصير، كما أنني رحت أكتب بعض النصوص عن أحفادي، أقرؤها عليهم، في أمسيات افتراضية، ليبتهجوا بها، إلى جانب بعض البرامج التي رحنا نقدمها لهم، أو تلك التي كانوا يقيمونها بإشرافنا، كنا نتابعهم خلالها، وهو ما وجدت فيه رئة لي، كي أستمرَّ في هذا الأسر الرهيب!

بعد أن تنفس العالم الصعداء، وبات موشور الخط البياني لحالة الرعب يهبط تدريجياً، وجدتني أمام – بيدر كبير – من نصوص مختلفة، وزعتها على أكثر من مخطوط، ثم أقصيت بعضها الآخر، لأسعى لتبويب، وعنونة كل مخطوط، على حدة، في محاولة لوضعه بين أيدي القراء، إلكترونياً، وورقياً، وإن كنت قد نشرت جزءاً لابأس به من هذه النصوص عبر الفضاء الإلكتروني – أو بعض وسائل النشر الورقي – بعد أن ضاقت بها وسائل النشر – الممولة – التي باتت تغلق أبوابها في وجه كتابات من ينقد مموليها، ما جعلني أتباهى بموقفي، لاسيما إنني ما عدت أعدم منبر النشر، في زمن كسر الرقابة، زمن سقوط الاستبداد.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني