fbpx

كورونا يعرّي النظام الاقتصادي

0 251

لقد كشف انتشار فيروس كورونا في العالم، عدم المساواة بين البشر حتى أمام الموت، وقد أظهرت الإحصائيات في بعض الدول الغربية، أنّ المهمّشين المكتظين في الأحياء الشعبية، وكذلك العمالة المهاجرة والمسنين، كانوا أكثر قرباً من حافة القبر، حتى إن الإحصائيات الوطنية باتت تتجاهل ذكر أسمائهم في قوائم الراحلين عن هذا العالم. وفي سطوة الموت، عاد خطاب الكراهية وعرّابوه من اليمين المتطرف، إلى الظهور من جديد وبقوة، في الدعوة للتخلص من كل ما هو “غير مفيد ومكلف” لميزانيات الدول التي تعاني من ركود اقتصادي يضرب قطاعات البلاد.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سيطرت أفكار السياسة الليبرالية على المشهد السياسي والاقتصادي في العديد من دول العالم، وتمتعت الشعوب بأنظمة رعاية صحية واجتماعية، أمنت لها حياة كريمة إلى حدِّ كبير في تلك الحقبة. لكن انتشار الوباء كشف عن ضياع تلك الأنظمة التي كان يتمتع بها الآباء والأجداد، ووجد الجيل الجديد في المجتمع الغربي نفسه، أمام نظامٍ لا يكاد يدرء عنه همجية المرض، لا بل تفاجأ الناس بأن الأنظمة التعليمية كذلك، أصبحت عاجزة عن إيجاد لقاح يصد عاصفة الداء التي تحصد أرواح الناس بلا رحمة.
وإذا ما وضعنا دول العالم الفقيرة تحت المجهر، سنرى صورةً أكثر قتامةً وبؤساً تغطى على الحياة العامة، وضعٌ صارت فيه الدول تلجأ إلى تزوير أو شطب أرقام الوفيات، أو حتى إشعال حروب تغطي فظائِعُها سودَاويةَ المشهد، ومنها ما راح يهوّل المشهد سعياً لإيقاف الحركة الاحتجاجية الساخطة، على سوء الأوضاع المزرية أصلا قبل اجتياح الوباء. ما تزال هذه البلدان تعول على ارتفاع نسبة الشباب في مجتمعاتها كطريقة للوقاية من الإصابة، باعتبار أنّ الوفيات طاغية بين المسنين، كما أنها في انتظار شمس الصيف، على أمل موت الفيروس تحت درجات الحرارة العالية، دون بذل أي جهد منها للتخفيف من أثر الجائحة.
فقدت هذه الشعوب في العالم الفقير معظم المزايا الصحية، التي كانت حصلت عليها عقب تطبيق بعض السياسات الاجتماعية بعيد الاستقلال، وكان لتطبيق تلك الإجراءات التي انحازت الشعوب إليها واستبشرت بها الكثير، أثر لا بأس به على معيشة المواطنين، الذين تمتعوا بتعليم مجاني وجامعات ترفع من مستوى ثقافاتهم، وكذلك نقابات عمالية ومنظمات مهنية دافعت عن الطبقات المهمّشة التي تنتمي إليها معظم مكونات تلك المجتمعات.
لم تنأ الدول الفقيرة بنفسها عن تلك الأصوات الداعية إلى التخلص من النقابات، على عكس ذلك، انقادت وراء الحكومات الغربية في الحرب الشعواء على كل أفكار اليسار “الهدامة”، كما فعل “ريغان وتاتشر”، بحجة تعطيل النقابات والمنظمات العمالية للإنتاج وقضائها على التنافس، ووقوفها عائقاً أمام التنمية. وعلى الرغم من عدم نجاح اليسار في تقديم حلول فعالة لمعالجة المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها الدول، إلا أنَّ السياسات الجديدة التي طبقت لم تذهب بالوضع الاقتصادي نحو الأفضل. إذ كان من نتيجة هذه الإجراءات التي نفّذت لتصفية القطاع العام، وإخفاق الدول في فتح المجال أمام القطاع الخاص بشكل صحيح، أن فشلت الدول في إنتاج الكمامات مثلاً، كأبسط حلِّ تنتظره الشعوب من حكوماتها، كما حصل في دولة مثل الجزائر على سبيل المثال، والتي قامت بتصفية قطاع النسيج ضمن الصناعات الحكومية.
تطبيق هذه المشاريع في كثير من دول العالم الفقيرة، أدى لبقاء العمال دون حماية قانونية ونقابية، كمن يجلس في العراء يلتحف السماء، وتسبب ذلك بمشاكل اجتماعية تجلت أهمها في قلة التعليم، بسبب عجز العمال في أحوال كثيرة وَضْعَ أولادهم في المدارس، إذ كانوا بحاجة أي دخل آخر يقيهم صعوبة الحياة وقسوتها. كما كان لذلك أثر قاس على حياة المرأة من جهة أخرى، وتعرضت للكثير من الظلم الحاصل من جراء نقص التعليم، وتأخر سن الزواج، والاضطرار إلى العمل على حساب الدراسة.
إلا أن ذلك لم يكن الحال في كل البلاد التي انتجهت تلك السياسات، ففي النمور الآسيوية وما حولها، استطاعت تلك الدول أن تضع اقتصاداتها في مصاف المنافسة العالمية، حتى عندما كانت تضيع حقوق عمالها لحساب أرباب العمل. وقد خطّت لنفسها طريقاً أبقاها على الأقل، قادرةً على العودة إلى التزاماتٍ أكثر عدلاً تجاه العمال والموظفين حين تسنح الظروف.
لم تكن المنطقة العربية للأسف كالنمور الآسيوية، فنحن لا نفقه غير ثقافة النفط والغاز اللذين تجود بهما الطبيعة، ولم تستطع غالبية الدول العربية المتعمدة على هاتين السلعتين أن تطور اقتصاداتها بعيداً عنهما، وحتى الأنظمة الخالية من الضرائب حتى وقت قريب، لم تسعف المواطنين في مواجهة الوباء وتخفيف آثاره. وجاء انهيار أسعار الطاقة ليزيد الطين بِلّة، ما حدا بالمسؤولين الذهاب باتجاه فرض المزيد من الضرائب، وتقليص النفقات في ميزانياتها، لتزيد بذلك من المعاناة التي تكابدها الشعوب.
حقيقة لم تنجح معظم الأنظمة الاقتصادية والسياسية في مواجهة الأمر، أفضل ما ذهب إليه القادة هو كيل الاتهامات ورمي الأنظار بعيداً خارج الحدود، في كارثة تتطلب المزيد من التعاون والتكاتف للخروج من الحلقة المفرغة التي يدور بها العالم.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني