كلمة مواطن بسيط.. لنخرج من الصّندوق
تتحقّق الأحلام والطّموحات في البيئة المشجّعة، المقدّرة لمقاصد الطموح، لذلك نجد السّبب الرئيس، في نجاح الكثير، هو تغييرهم لبيئتهم الأصليّة الأولى، ليس هرباً منها بدافع نكرانها، والدّليل هو الحنين إليها وإلى بساطتها وعاداتها وتقاليدها وممارساتها بين الفينة والأخرى، بل بدافع البحث عن ذواتهم وتحقيق آمالهم، بعيداً عن السّكون الفكري والإبداعي، والسّطحيّة التي لفّتهم وهم داخلها، وتحقيقاً للاتّزان في شخصيّتهم، حتّى لا تميل كلّ الميل للاّتحضّر والانغلاق الذي أحسبه طبعاً مفروضاً ومحتّماً على الكثير، حتّى أصبح – اللاّتحضر والانغلاق – سِمَةً لصيقة بهم، ولا للبعد والانسلاخ عن قيَمهم التي نشؤوا عليها، وبهذا يضمن الفرد التعايش السّلس والسّليم مع البيئتين، رغم اختلافهما شكلاً ومضموناً، ويمكنني القول هنا: “إنّ النجاح لا يكون نتيجة الولاء المطلق للأفراد، بما فيهم أفراد العائلة، بل للقيم سواء تلك المكتسبة، أو التي أسّسناها لأنفسنا، لمساعدتنا على الوصول للهدف المرجو”.
فالتّفكير خارج المعتاد، أو خارج الصندوق، نعني به إيجاد مخارج أكثر إلهاماً وإبداعاً، أو بمعنى أوضح: التحرّر من الحصار المفروض على قدراتك، مؤهّلاتك، طموحاتك، والنأي بكل هذا عن الذّوبان في “بيئة محليّة” لا يهمّها التّجديد، بقدر ما تستلذّ الرّتابة والحياة الروتينيّة الخاملة، وتكرار السّائد دون محاولة تطويره وتنميته، وهذا هو التّفكير خارج الصندوق، الذي تُترجمه تحرّكاتك وسعيك المستمر، بحثاً عن فرص أفضل للنّجاح، وعدم اطمئنانك المطلق للرّكود والخمول.
يتّجه الكثير من الأولياء، إلى حرمان أبنائهم من التّفكير بطرق إبداعية، ضماناً لمستقبل أفضل لأنفسهم، فيحاصرونهم بأفكار أكل عليها الدّهر وشرب، بل ويوهموهم أن الخروج عنها، يعدّ تمرّداً وانسلاخاً عن العرف السّائد؛ وهذا في حقيقة الأمر منافٍ لحقيقة النّجاح، الذي لا مناص من أجل تحقيقه إلى الاحتكاك بأشخاصٍ أثبت الواقع نجاحهم، بعد انتقالهم إلى بيئة وفّرت لهم شروط النّجاح، وساعدتهم على الخروج من الصّندوق، الذي قلنا عليه سابقاً، تلك الحتميات التي لا طائل منها، ولا مسوّغ لوجودها، غير أنّها تكريس لمبدأ التثبيط والانهزاميّة، ليقول المتخرِّجون منها: “حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا”.
يمكنني تقريب الفكرة أكثر، بالنّزول والاقتراب وتسليط الضّوء، على المجتمعات التي ترفض مصاهرة غير الأقارب، وذلك، بفرض معتقدات وأعراف اجتماعيّة، ما أنزل الله بها من سلطان، على البنت، التي وصلت إلى سنّ تؤهّلها لتستقلّ بأسرتها الخاصّة، ولا يحقّ لها أن تختار شريك حياتها خارج دائرة “العرش”! – خارج الصندوق – وهو نوع من الظّلم والاستبداد غير المبرّر، ولا يتقاطع مع تعاليم الدّين الإسلامي في شيء، بل يتنافى معه جُملةً وتفصيلاً، ويصل إلى حدِّ الإكراه، وهنا نكون قد أسسنا إلى أسرة في مجتمع يعيش تحت مظلّة الانغلاق المُتجاوزِ فيه، ولو كان يبيح لذكوره مالا يبيحه لإناثه.
الأمر يتعدّى ما سبق، إلى القائمين على التّعليم والإدارة، الذين يعملون على تلطيخ ذهنية تلاميذهم، أو العاملين تحت إمرتهم ومسؤوليتهم، بأفكار لا تتماشى والواقع المعيش، هي في الغالب نتاج ما أخذوه هم، في زمن وظروف معيّنين، ويعملون على توريثه لجيلٍ، يُفترض به أن يواكب الحاضر، ويؤسّس لمستقبل مغاير تماماً.
حريٌّ بي، أن أشير على ضوء ما سبق؛ إلى أن الجامعة كمؤسّسة تعليميّة، مسؤولة على مخرجاتها، أي أنها لا تتشابه مع غيرها من المؤسّسات، بل عليها تقديم أفراد يفكّرون بطريقة مختلفة، إبداعية، متفرّدة، مستنيرة، تحاكي الواقع وتعمل على تطويره، بناءً على احتكاكهم بعقول وذهنياتٍ مختلفة، وهذا هو جوهر التّعليم العالي، ومنه التّفكير العالي، البعيد عن الصّندوق، إذ لا فائدة تُرجى من مخرجات جامعيّة لم تستطع تحرير وتطوير نفسها، فكيف بها تطوّر محيطها وتنمّيه.
جدير بالذّكر هنا، أنّ الخروج من الصّندوق، والتّفكير في النّجاح خارج بيئاتنا المحدودة، لا نعني به الانسلاخ عن القيم والمبادئ، بل لابدّ من حملها معنا والتسلّح بها، حماية لأنفسنا من نظيراتها، التي لا تتواءم ومعدننا وتنشئتنا، كما أنّ فكرة التفكير خارج الصندوق بحدّ ذاتها – حسبي – هي إعلان الصّلح مع الآخر، إذاً هي مصالحة بين بيئتين وذهنيتين، ومن أخذ حضارته وطريقة تفكيره ونمط معيشته، من مكانين مختلفين أو تعدّاهما، ليس كمن اكتفى بواحد، وبهذا نكون قد حقّقنا فعلاً معاني الخروج الإيجابي من الصّندوق، الذي سنعود بعده لبيئتنا الأولى، محمّلين بالخير والإضافة، وعندئذٍ لن يكون النّجاح شخصيا وحسب؛ بل نجاحٌ جماعي.
أخيراً، لابدّ للطّامح من التّفكير بعيداً؛ فكلّما فكّرت أبعد وأعمق، من محيط حيّك، بلدتك، عشيرتك وقبيلتك، مؤسّستك، مدينتك، وطنك، قارّتك، كلّما ساعدت نفسك وهيّأتها لتقبّل واستقبال التّطوير والتّغيير، ولا تخشى نظرتهم إليك، كونك تحمل أفكاراً غريبة، ما الغريب إلاّ اجترار الأفكار، رغم رحابة العالم.