“قسد” تختبر تحالفها مع الأسد قبل ساعة الصفر
في هذه الصورة تبدو غالبية العوامل المتحكمة بالمنطقة الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا غير قابلة للتغير، ثابتة بقوة التفاهمات السياسية والأمنية باستثناء قرار قد يأتي من الرئيس السوري بشار الأسد.
ليس كل ما تزعمه الأطراف الفاعلة في المشهد السوري، حين تطوّقها الحسابات والتفاهمات الدولية، قادراً على الصمود أمام استحقاقات لا مفرّ منها في نهاية المطاف، ولعبة التحالفات وإن طال أمدها تبقى خاضعة لميزان دقيق لا مكان فيه لـ”صديق الجميع”، وهو ما حاولت ما تسمّى بقوات سوريا الديمقراطية “قسد” تطبيقه جاهدة خلال السنوات الماضية.
تبدو تركيا غير مستعجلة على البدء بالعملية العسكرية التي تلوّح بها على حدودها الجنوبية، طالما أن هذه العملية التي أعلن عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مفصّلاً في خرائطها وعمقها داخل الأراضي السورية، تتمكن من إحداث تغيير مّا في مكان آخر، حتى دون أن يقرع فيها جرس ساعة الصفر.
وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، العائد من جولة قادته إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، كان قد وقّع مذكرتي تفاهم بغرض تطوير العلاقات في مجال الصناعات الدفاعية، إحداهما تتعلق بالتعاون الصناعي بين رابطة مصنّعي صناعة الدفاع والطيران الأتراك ومجلس الإمارات للشركات الدفاعية، أما الثانية فتخص التعاون في مجال الاختبار والاعتماد بين شركة “تي آر تيست” ومجلس “التوازن”. ما يعني أن التنسيق العسكري حول الأمن القومي للبلدين في أفضل حالاته اليوم. أكار وضع أيضا، الثلاثاء الماضي، نظيره الروسي سيرجي شويغو بصورة القرار التركي بشن عملية عسكرية على الحدود والذي اعتبره رداً على التحركات التي تستهدف أمن بلاده في شمال سوريا.
ولا يظهر نافلاً عن سياق تطبيع العلاقات التركية الخليجية، تصنيف رئاسة أمن الدولة السعودية مؤخراً للأخوين حسام وبراء قاطرجي على قوائم الإرهاب، على خلفية “تسهيلهما تجارة الوقود لتنظيم داعش الإرهابي، والتعاون مع التنظيمات الأخرى مثل الحرس الثوري الإيراني”. فهذا ليس كل ما فعله الأخوان قاطرجي، بل إن نشاطمها الأساسي الآن هو التنسيق مع “قسد” بعد شراكة طويلة مع داعش. وهي رسالة سعودية بليغة إلى تركيا بتخلي الرياض عن داعمي الميليشيا الكردية وحلقة وصلها القوية مع نظام الأسد، في تغيير لمسار دعم سعودي استمر طويلاً، وصل إلى درجة إرسال السفير السعودي ثامر السبهان لزيارة المناطق التي تسيطر عليها “قسد” في المنطقة الشرقية السورية.
الأسد سيقف موقف المتفرج أملاً بأن ينهك الطرفان بعضهما بعضاً، حتى تحين الساعة المناسبة ليحصد ثمار صبره الاستراتيجي المعهود، مغفلاً أن تركيا إنما تخوض حرباً امتدت لعقود
في الخلفية ما زالت تدور مفاوضات مع السويد وفنلندا بشأن موافقة أنقرة على انضمامهما إلى الناتو، الأمر الذي تضع تركيا دون تحقّقه شروطاً تريد من البلدين الالتزام بها، وعلى رأسها دعم ستوكهولم وهيلسنكي لحزب العمال الكردستاني الذي يمثل قيادة “قسد” المباشرة والذي أنكره السويديون إنكاراً قطعياً، لولا أن عرض لهم الأتراك صور الأسلحة والقاذفات سويدية الصنع التي تم تسليمها لميليشيا “بي كي كي”، إضافة إلى أن الدعم السياسي لستوكهولم لم يتوقف لحظة واحدة لقيادة حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وليس أدلّ على ذلك من استضافة العاصمة السويدية للقاء سياسي أشرفت عليه وحضّرت له وشاركت فيه إلهام أحمد عضو اللجنة المركزية لـ”بي كي كي” ورئيسة اللجنة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطي “مسد” الذي يحكم المحافظات السورية الثلاث الرقة ودير الزور والحسكة.
والواقع أن معادلة الأكراد في هذا المشهد أكثر تعقيداً مما تبدو عليه، فالنواة الصلبة لهذا المشروع الذي يشكو من التهديدات التركية اليوم، هي بالفعل مسألة تركية – تركية صرفة، يمثلها “بي كي كي” الذي قام بتشكيل سلسلة من التحالفات منذ أن قرّر نقل البندقية عبر الحدود من حرب في جنوب تركيا، إلى حرب أخرى شمال سوريا.
تحالفت النسخة السورية من ميليشيا “بي كي كي” والتي تسمّى “وحدات حماية الشعب” الكردية من البداية مع النظام السوري، وقامت بعمليات تسليم واستلام متبادل، ضمنت له فيها الأمن في المنطقة الشرقية، مقابل عقود تم تسريبها وفضح أمرها لاحقاً تتصل بالاستفادة من آبار النفط والغاز، على أن تبقى رموز سيادة الدولة السورية وصور بشار الأسد ومقرات حزب البعث والأجهزة الأمنية وغيرها دون المساس بها، وهذا الاتفاق صمد بصعوبة، لكنه مستمر حتى اللحظة.
مع ظهور داعش عقدت الولايات المتحدة مع ميليشيا “بي كي كي” صفقة تنص على أن يحاربوا التنظيم على الأرض مقابل أن تطلق يدهم كشرطي للمنطقة الشرقية السورية يضبط الأمن، ولكن شريطة خلق نوع من الغطاء السياسي الذي سمّي بمجلس سوريا الديمقراطية “مسد” وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وهذه الصفقة صمدت بدورها رغم أن القوانين الأميركية تصنّف “بي كي كي” منظمة إرهابية ويضعه الناتو على قوائم الإرهاب.
وبقي أكراد سوريا وأحزاب المجلس الوطني الكردي يرفضون هيمنة حزب يرونه أجنبياً مارس ضدّهم القمع وأحرق مقراتهم واعتقل قياداتهم السياسية، ولا يخفي هؤلاء أنهم يخشون ليس فقط من عمليات التجنيد الإجباري التي تطبقها “قسد” على أبنائهم وبناتهم، بل حتى على مستقبل الأجيال الكردية التي عاشت وتعيش تحت سيطرة “قسد” لأن لغتهم الكردية المستعملة في سوريا أخذت بالذوبان لصالح ما جلبه معه “بي كي كي” من تركيا وشمال العراق وإيران وأرمينيا، وهي البلدان التي قدم منها مقاتلوه إلى سوريا.
لم تنته السلسلة بعد، فالحزب الذي ينظر إلى نفسه كمنظمة ثورية قادمة من زمن النضال الأحمر، على مستوى الشكل، ولا مانع لديه من مدّ اليد إلى الشيطان من أجل تحقيق أهدافه، وجد أن الروس حليف محتمل في الخارطة الراهنة، فأقام تفاهمات مع موسكو وصلت حدّ التنسيق العسكري والأمني المباشر.
ولم يبق من لاعبي خشبة المسرح السورية الدامية سوى الإيرانيين، وهؤلاء أساساً يحتفظ “بي كي كي” بعلاقة وثيقة معهم عبر قيادته العليا في جبل قنديل شمال العراق التي لا تحرّك ”قسد“ ساكناً دون أن تتلقى الأوامر منها.
أكار أبلغ شويغو أن “الأعمال التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار الذي تحقق في المنطقة ستلقى الردّ المناسب كما أن وجود إرهابيين في المنطقة أمر غير مقبول”، مذكّراً إياه بضرورة الالتزام بالاتفاقات السابقة بشأن هذه المسألة. ما يعني عزفاً تركياً على وتر العلاقات الوثيقة مع موسكو التي يحرص الرئيس فلاديمير بوتين على عدم المسّ بها في الوقت الراهن وإبقائها على ما هي عليه، لاسيما بعد أن انفردت تركيا بموقف رافض للعقوبات الغربية المطبقة على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا.
لم يبق من لاعبي خشبة المسرح السورية الدامية سوى الإيرانيين، وهؤلاء أساساً يحتفظ “بي كي كي” بعلاقة وثيقة معهم عبر قيادته العليا في جبل قنديل شمال العراق
القائد العسكري لـ”قسد” فرهاد شاهين المعروف باسم مظلوم عبدي، كشف عن فشل المفاوضات الجارية مع دمشق والتي كانت تقوم بها الوفود التي يرسلها إلى العاصمة السورية، فلم يجد سوى الإعلام ليرفع صوته من خلاله مستنجداً بالأسد، فدعا “الحكومة السورية” لحماية حدود بلادها في وجه التهديدات التركية.
بدا عبدي كمن يلعب بالأوراق كلها دفعة واحدة، فكما حثّ الأسد على حماية قواته، بيّن أن الروس كانوا قد وعدوه برفض أيّ عملية عسكرية تركية محتملة، وافترض أن واشنطن لا بد وأن يكون لها موقف “أكثر وضوحاً حيال الهجمات”.
بذلك يؤكد عبدي أن الموقف الأميركي “ليس واضحاً” عليه تماماً، الأمر ذاته كرّره حين تحدث عن موقف الأسد وقال بالحرف “المطلوب من الدولة السورية هو أن تكون صاحبة موقف، لأنه في النهاية جزء من الأرض السورية يتعرض للهجمات والاحتلال”.
ومع التلويح بخطر عودة داعش، والتذكير بما أطلق عليهم عبدي تعبير “آلاف العائلات من ذوي عناصر ومسلحي داعش” في مخيمات الاعتقال التي تقيمها “قسد” على الحدود السورية العراقية، فهناك، على حد قول عبدي، مخيمات تؤوي أسر مرتزقة كمخيمي الهول وروج، بالإضافة إلى عدد من المخيمات الصغيرة الثانية على طول امتداد المنطقة، وعن ذلك أشار عبدي إلى أن أيّ هجوم جديد ستخرج معه تلك المخيمات عن السيطرة.
في هذه الصورة تبدو غالبية العوامل المتحكمة بالمنطقة الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا غير قابلة للتغير، ثابتة بقوة التفاهمات السياسية والأمنية القائمة والمستجدة، باستثناء قرار قد يأتي من رئيس النظام السوري بشار الأسد.
غير أن السؤال هنا ليس عن طموحات “قسد” ومصالحها وتوقعاتها من حلفائها المتناقضين، بل حول مصلحة الأسد في تلبية كل تلك المخاوف، فلماذا سيرفض عودة داعش؟ ولماذا سيقلق من إضعاف “قسد” التي ما يزال خطابه الرسمي يسميها الميليشيات الانفصالية، ويرفض طلبها بالانضمام إلى جيش وطني واحد تشكل فيها تشكيلات قومية وفق مبدأ اللامركزية؟
في حال شنت تركيا عمليتها العسكرية الجديدة، لن يتدخل أحد، وسيكون على الولايات المتحدة أن تحسب ما يمكن أن تخسره على جبهة الناتو، في حال عرقلت تقدم القوات التركية، إلا في حال تم تقديم ضمانات لأنقرة داخل الحلف، لكن كيف سيكون شكل تلك الضمانات إن لم تكن تخلياً عن دعم “قسد” و”بي كي كي”؟
الأرجح أن الأسد سيقف موقف المتفرج أملاً بأن ينهك الطرفان بعضهما بعضاً، حتى تحين الساعة المناسبة ليحصد ثمار صبره الاستراتيجي المعهود، مغفلاً أن تركيا إنما تخوض حرباً امتدت لعقود مع “بي كي كي” لعب فيها والده حافظ الأسد دوراً أساسياً في دعم التنظيم الكردي الانفصالي وتسليحه وتدريبه على الأراضي السورية واللبنانية قبل أن يتخلى عنه ويطرد زعيمه عبدالله أوجلان ثم يسرّب للأتراك إحداثيات تواجده ليتمكنوا من القبض عليه وإيداعه في سجن “إمرالي”.
العرب 2022/6/11