قراءة في كتاب قصة أردوغان
رجب طيب أردوغان (رئيس وزراء تركيا ورئيس حزب العدالة والتنمية التركي والرئيس التركي حالياً) شخصيه تستحق أن تدرس، فله دور أساسي في تركيا والمحيط الإقليمي والعالمي، يستحق الفهم والمتابعة والاستفادة.
يبدأ الكتاب من محورين متكاملين لرسم صورة أردوغان ودوره.
الأول تركيا ما قبل أردوغان، الصاعدة من انهيار الدولة العثمانية، وبداية تشكل الدولة التركية على يد المؤسس مصطفى كمال أتاتورك الذي بنى الدولة التركية على المبدأ القومي العلماني، والذي اعتبر أن سبب تخلف تركيا هو امتدادها الإسلامي، فأعلن مبدأ العلمانية وفصل الدين عن شؤون الدولة وحتى بعض شؤون الحياة، فانتقل باللغة التركية من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، وألغى الأذان في المساجد باللغة العربية، وضيق على رجال الدين، وأدار وجه تركيا صوب الغرب، واعتبر الغرب القبلة السياسية والفكرية والقدوة لتركيا لتلحق بركب التقدم.
أدت هذه النقلة الانقلابية في العلاقة مع الماضي كتراث ودين وقيم في تركيا أتاتورك إلى الإحساس عند قطاع واسع من الأتراك أنه هناك مبرر للبحث في ضرورة الأخذ بطرق الغرب للتقدم العلمي، وبناء الحياة الأفضل، وخاصة أن ذلك اقترن بأخطاء أساءت لمسيرة التقدم وبناء الدولة، فقد تركز في الدستور التركي تثبيت السلطة بيد طبقة من الرأسماليين والسياسيين ورجال الجيش الذين حولوا تركيا لموقع استثماري على حساب الشعب، مدعومة بالجيش المعتبر حامياً للدستور، ما جعله فوقه وجعله يتدخل في كل وقت لصالح هذه الفئة تحت ستار العلمانية وحماية الدولة، هذه الدولة التي عانت من الفساد المستشري في عمقها وأجهزة الحكم فيها، الاقتصاد منهار ومديونية تصل لأكثر من سبعين مليار دولار، تضخم اقتصادي وبطالة، أزمات سياسية، مشكلة الأكراد وتحولها لحرب أهلية داخلية، تركيا الغنية بموقعها وثرواتها وتاريخها تعاني من بؤس لا تستحقه، سببه سياسات قياداتها السياسية ومصالحهم على حساب الشعب التركي.
كان ذلك من بداية تشكيل الدولة حتى السبعينيات، حيث فرز الجو الديمقراطي قوى سياسية طرحت حلولاً وبدائل للواقع، هنا نتوقف عند شخصيه محوريه في تاريخ تركيا، إنه نجم الدين أربكان، السياسي التركي المخضرم، الذي فسّر حالة تركيا وتخلفها بأنه بسبب إدارتها ظهرها لدينها وامتدادها الحضاري، وأنها لا تهتم بشعبها وبمصالحه، وأنها تخدم كدولة مصلحة فئة قليلة من السياسيين والرأسماليين، وأن فساد الدولة فوق مصلحة تركيا وشعبها، وبدأ رحلة السياسة مكملاً طريق من سبقه عدنان مندريس؛ الذي تحرّك بهذا الاتجاه ونجح، ثم انقلب عليه العسكر وأعدموه في ستينيات القرن الماضي، (بدعوى حماية العلمانية) وقام أربكان بإنشاء سلسلة أحزاب، ونجح في الوصول إلى المجلس النيابي وتشكيل حكومات استطاعت معالجة القضايا الأساسية للناس والدولة التركية، لكنه وفي كل مره يقع ضحية تحالف العسكر مع الرأسماليين المتضررين وطبقة القضاة، لكي يتمكنوا من حل حزبه وإسقاط حكمه بانقلابات عسكرية.
أما المحور الثاني فنجد أنه في هذا المناخ العام وضمن شباب حزب أربكان نشأ أردوغان يحمل رؤية للإسلام تعني الخير والعدالة والمصلحة العامة لمجموع الشعب، وتدرج في حزب أربكان وأصبح وجهاً سياسياً شاباً، وكان له حضور سياسي كبير، ووصل ليكون رئيس بلدية اسطنبول الكبرى، وينفذ رؤيته وينجح، ولكنه يسقط مع الحكومة في انقلاب جديد ويسجن لعدة أشهر، ويكون سجنه فرصة مراجعة لمسار أستاذه أربكان الذي ألف أربعة أحزاب، السعادة والفضيلة و..الخ، وكلها حلت ووقعت حكوماته ضحية للانقلابات، بعد الخروج من السجن، انفصل أردوغان عن أربكان وعمل مع صديق عمره ونضاله السياسي عبد الله غول على إنشاء حزب العدالة والتنمية.
في حزب العدالة والتنمية، الذي تميز عن أربكان وحزبه، صنع أردوغان لنفسه مساراً مختلفاً ومتميزاً، فقد تراجع عن الدعوة العلنية للإسلام واستعادته، وركز على علمانية الدولة، وفسرها بأنها حيادية تجاه الدين، وأنها تحترم اعتقادات الناس، وركز على المحتوى الحياتي للدين، من عدالة وتنمية ومصلحة عامة وأخلاق لمجموع الشعب التركي، ركز على الاقتصاد التركي شبه المنهار وكيف يعالجه، وعلى تأمين العمل للجيل الجديد، والخدمات العامة، ومواجهة المديونية المتراكمة والفساد، وطرح خطط طموحة لتحقيق كل ذلك، ظهر الحزب قوياً في مواجهة أحزاب عريقة فاسدة وفاشلة في حل مشكلات تركيا المزمنة، وحتى حزب أربكان توارى للخلف وأصبحت أغلب شعبيته تابعة لحزب العدالة والتنمية.
نجح حزب العدالة والتنمية في أول انتخابات له بنسبة عظيمة، حصل على أكثر من ثلاثين في المائة، جعلته يفوز بالأغلبية في مجلس النواب ويصنع حكومته ويبدأ بتنفيذ سياساته، ولينجح على الأرض بتحقيق برنامجه، فعبر ثلاث دورات برلمانية تزيد نسبة حزبه في الانتخابات البرلمانية لتصل إلى أكثر من أربعين بالمئة في الانتخابات الثانية، لتصل إلى أكثر من خمسين في المئة في الانتخابات الثالثة، ولأول مرة في تركيا ينجح حزب في الاستمرارية بالحكم والقبول الشعبي، وبنفس النسبة، طبعاً كل هذا يصنعه أردوغان عبر نجاحاته، الاقتصاد التركي نهض وتجاوز مديونية كبيرة عبر فترة قياسية، وقويت الليرة التركية وحظيت بثقة الشعب، أما الخدمات الأساسية من طرق وطبابة وفرص عمل وتقدم في جميع المجالات تحققت بوتيرة عالية، ما جعل تركيا في مصاف الدول الناهضة في العالم، وفوق ذلك اتخذت سياسة خارجية متوازنة تجاه أحداث العالم، اصطفت إلى جانب حق الفلسطينيين في تحقيق الدولة الفلسطينية، ورفضت تركيا الحرب من (إسرائيل) على لبنان وغزة، ودعمت – على الأرض – ودولياً فك الحصار عن غزة، وظهر أن تركيا هي الطرف الدولي الوحيد الذي يقف إلى جانب قضايانا العربية العادلة، سعى أردوغان إلى حل كل المشاكل العالقة بين تركيا ودول الجوار، فيما سمي (تصفير المشاكل)، بتفاهم مع سوريا (قبل الثورة) وكذلك العراق والدول الآسيوية وروسيا وحتى أرمينيا واليونان، كما تقدم بالمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لأجل الدخول في الاتحاد، وألغيت التأشيرات بين تركيا وأغلب هذه الدول، كخطوة على طريق التفاعل الإيجابي.
أنجز أردوغان في تركيا كل ذلك بدأب، فأعاد صياغة الاقتصاد وتفعيله، وجعل تركيا متقدمه وناهضه، وأعاد صوغ العلاقة بين الجيش والشعب عبر تعديلات دستورية، حول الجيش من قوة فوق الدستور لقوة تابعة للشعب ومجلسه النيابي، خفف غلواء العلمانية وحولها من عداء للدين إلى حيادية تجاهه كدولة، نفّذ باقتدار دولة الرعاية الاجتماعية، الخدمات الطبية والتعليمية مجانية، وفرص العمل مؤمّنة، والحياة مفتوحة أمام الأتراك.
إن لتركيا وأردوغان دور في مساعدة الثورات العربية ودعمها، ولو أن ذلك سبب لهم ضرراً بالمصالح على المدى القريب، لكنها استحقاقات الديمقراطية ومواقفه المعبرة عن انسجام مع مبادئه ومصداقية بين القول والفعل.
إن تركيا استقبلت الشعب السوري الهارب من ويلات النظام السوري المستبد القمعي وبطشه، وتعاملت معهم كضيوف وأمنت الإقامة الفورية، وفرص العمل، والرعاية الصحية وفرص الدخول للجامعات والمدارس، هذا غير الرعاية الاجتماعية من الجمعيات المدنية، وغير استخدام موقفها السياسي كدولة داعمة للشعب السوري بحقه بإسقاط النظام المستبد المجرم ومحاسبته وبناء الدولة الديمقراطية.
ينتهي الكتاب بنشر برنامج حزب العدالة والبناء، وهو طويل نسبياً، يطال كل أمور الحياة في تركيا، يستحق قراءة خاصة، وتمعن به، ونحن نرى نجاح حزبه ورئيسه أردوغان في الانتصار لإنسانية الإنسان التركي، والالتحاق بمصاف الدول المتقدمة.
لقد نجح أردوغان وحزبه بجعل الإنسان التركي يفتخر بقوله: أنا تركي.
المؤلف: د غالب السرجاني
الناشر: القلم للنشر والتوزيع
ط 6، ورقية، 2021.