قراءة في رواية قيامة البتول الأخيرة (الأناشيد السرية)
- الكاتب: زياد كمال حمامي
- الناشر: دار نون4
- ط1، ورقية، 2018م.
زياد حمامي روائي وقاص سوري متميز، يكتب منذ عقود، حصل على الجوائز الأدبية على بعض كتاباته.
قيامة البتول الأخيرة (الأناشيد السرية)، عمله الروائي الأخير، وهو أول عمل أقرؤه له.
تعتمد الرواية أسلوب السرد بلسان الراوي أحياناً، وعلى لسان الشخصية التي يتابعها الكاتب أحياناً أخرى، بما يخدم النص الروائي، ويجعله أقرب للقارئ وأكثر تشويقاً وحضوراً ومصداقية.
رواية قيامة البتول الأخيرة تتابع بشكل شمولي وشبكي حياة مجموعة من الأشخاص في حي البندرة في مدينة حلب في لحظة تاريخية مهمة، هي وقت الصراع بين النظام السوري والقوى العسكرية المعارضة للنظام، ووصولها لهذا الحي، دون ذكر تاريخ معين، ودون الخوض بالأسباب التي أدت لوصول الحالة في حلب وفي سوريا إلى حالة الحرب – كما يحب تسميتها الكاتب – في حلب وفي ذلك الحي.
تتحدث الرواية عن الناس في الحي، وما عاشوه، وعبر الحفر معرفياً حول حياتهم لعقود سابقة، وكيف تعاطوا مع “الحرب” كما عاشوها.
تتميز الرواية أيضاً بأنها رواية مجتمع، وليس رواية شخصية محورية أو أكثر، فكل أبناء حي البندرة حاضرون ولهم منصة ليتحدثوا عن أنفسهم، وهم جزء من لوحة الواقع بكل تفاصيله، ما جعل الرواية أقرب لأن تكون ملحمة بتعدد أصوات أشخاصها وتنوع حياتهم ومساراتها، قريبة الشبه من رواية الحرافيش لنجيب محفوظ.
تتابع الرواية في فصولها الأربعة الكثيفة والطويلة نسبياً، حياة عبد السلام الفنان التشكيلي وعائلته، كذلك حياة الهلالي وابنه يحيى، وأبراهام اليهودي وعائلته وابنته ليزا، والأختين العانسين ثريا العمياء النظر، حاضرة البصيرة وأختها مربية القطط، والخواجا الخياط الأرمني وابنته ألين، والأستاذ أبو النصر وابنته البتول، والخوجة، وأبو جمرة تاجر الممنوعات الذي أصبح من أثرياء الحرب، والعرافة خاتون، والحميماتي، والنونو المجنون، وبائع السلل.. والكثير من أبناء الحي، بمن فيهم الكلب ميمو الذي تكلم في الرواية، حيث كان له حضور.
وقبل الخوض في الحدث الروائي “الحرب” وتبعاتها وانعكاسها على كل من هؤلاء جميعاً، بصفتهم الشخصية، وعبر شبكة علاقاتهم المجتمعية، فهم كلهم ومعهم آخرين يمثلون أبناء حارة البندرة، ماذا حصل بها، كيف تصرفوا تجاه الأحداث، المآلات لهم وللحارة ولحلب ضمناً بعد ذلك.
تبدأ الرواية من حدث مفصلي داخلها، حيث يظهر وكأن “الحرب” التي حصلت في سوريا هي واقع يعيشه كل أهل حارة البندرة في حلب، وأهم نتائج هذه “الحرب” هي حالة الفوضى، التي عمت كل شيء. أصوات القذائف، وصول قوات النظام، ووصول قوات المعارضة المسلحة، ومناوشات بين الطرفين، وحصول هدنة مؤقته لـ 84 ساعة جعلت الناس تتنفس وتخرج من مخابئها، لتعرف أحوال بعضها بعضاً.
لقد وصل التدمير والحرائق إلى السوق القديمة، وسلبت بعض المحلات، ودمرت مئذنة الجامع الأموي الكبير، الفاعل مغفل، وكل طرف يتهم الآخر.
يتفاجأ أهل الحارة بحصول جريمة اغتصاب جماعي للبتول ابنة أبو النصر، الموظف النظيف المطّلع على خفايا الفساد في دوائر الدولة في حلب، داهم خمسة ملثمين بيت “أبو النصر”، ضربوه بقسوة، وقيدوه وأغلقوا فمه، ومن ثم احضروا ابنته البتول الوحيدة أمامه، وقاموا باغتصابها بشكل جماعي، ومن ثم قطعوا إصبع الابهام ليده اليسرى، وينوون استخدامها في ختم بعض الأوراق الهامة لمن أرسلهم، وتركوه بعد ذلك وغادروا المنزل مهددين متوعدين. أدرك أبو النصر أنه يدفع ثمن نظافته، ورفض أن يمرر صفقات مشبوهة لصالح بعض الفاسدين المرتبطين بالنظام. لذلك اغتصبوا ابنته أمامه وعاقبوه بهذا الشكل. لم تستطع البتول تقبل ما حصل معها، أصيبت بنوبة جنون، صعدت إلى سطح منزلهم وألقت بنفسها، لم يجد أباها وأهل الحي جثتها، بعضهم قالوا إنها صعدت إلى السماء أو هربت، ولابد أن تعود ويكون لها قيامتها وانتقامها من مغتصبيها ومن خلفهم من الرؤوس الكبيرة للفاسدين.
علم عبد السلام بما حصل مع “أبو النصر” وابنته البتول، كان معتكفاً في قبو منزله، يقوم بنحت مجسم يمثل الحرية، له الكثير من الرسوم والمنحوتات، اعتمد عليها ليؤمن فرص عيشه مع والدته، خاصة أنه لم يستطع التوظف بعدما أنهى دراسته الجامعية، لأنه ليس موالياً للنظام، ولم يقبل أن ينضم للفاسدين ناهبي الدولة والمجتمع، هذا غير أن والده كان قبله ضد الفساد وكشف الكثير عنه، حاصره الفاسدون وأدوا لأن يموت قهراً من عداوتهم وإضرارهم له. لذلك كان أول عمل قام به عبد السلام، الذهاب إلى بيت البتول واللقاء بوالدها، الذي أخبره عن مكان الوثائق التي يخفيها ويفضح فيها الفاسدين وأعمالهم غير المشروعة، والد البتول الذي لم يحتمل ما حصل مع ابنته، وتوفي قهراً بعد ذلك.
استخرج عبد السلام الوثائق واطلع عليها، أذهله ما فيها من حقائق تدين الفاسدين ومقدار السرقة والرشاوى وكل ذلك ينعكس بالضرر على مصالح الناس وأعمالهم. سارع للقاء صديق عمره وصنوه بالعمر يحيى ابن الهلالي، كانا مختلفين بالطباع، طيبين أصيلين متكاملين، اتفقا على العمل بشكل مشترك لحماية أهل الحي في هذه الحرب المجنونة. كل ذلك حصل بمعرفة الهلالي والد يحيى الرجل الأصيل العارف صاحب التجارب. كما تواصلا سوية مع أبو الرمز اللاجئ الفلسطيني الذي جاء منذ طفولته، إلى حلب هارباً من مجزرة دير ياسين عام 1948م، حيث شاهد بأم عينه قتل أهله وقتل كثير من أهل البلدة. جاء وعاش في حلب يحمل نكبته في نفسه، ونذر نفسه ليصنع وعياً لكل المحيطين فيه، بحيث تتكامل الجهود لمحاربة العدو الصهيوني الذي لم ينته عدوانه وضرره بحق العرب في فلسطين وخارجها حتى هذه اللحظة، كان لديه مكتبة كبيرة، تربى أغلب شباب الحي على قراءتها والاطلاع على محتواها. كان أبو الرمز الأب الروحي لوعي علمي ثقافي سياسي زرع في أغلب شباب الحي ومنهم عبد السلام ويحيى والبتول وغيرهم كثير.
في الحي أيضاً الأختين العانسين المعمرتين ثريا العمياء، لكنها صاحبة البصيرة المتوقدة، التي تشعر بكل من يحيطها، وتشكل لهم عوناً وسنداً معنوياً تقدم مشورتها ونصحها لهم كل الوقت. ثريا كانت شبه سجينة مع أختها أم القطط، لقبت كذلك كونها تحتفظ عندها بالعشرات من القطط في شقتها التي تسكن فيها مع أختها. تغادر يومياً المنزل الأشبه بسجن للقطط باحثة عن بقايا الأطعمة في المزابل والحاويات القريبة في الحي وتحضرها لقططها التي هي بمثابة أولادها، ترعاها وتحكي معها وتفرغ أمومتها بها.
الحرب انعكست عليها بهروب أختها الثريا من تحت سيطرتها وانشغالها بالحي وأحواله الجديدة، ونقص الأطعمة التي لم تعد تجمعها، وعجزها عن الخروج من منزلها، وتحول حياتها وحياة قططها الجائعة إلى شبه جحيم.
ستنتهي حياتها ميتة بين قططها التي مات أغلبها وتحولت الباقية إلى متوحشة تأكل بعضها وتأكل أم القطط ذاتها بعد موتها وتفسخ جسدها. تم اكتشاف منزلها وما أصابها تحت الأنقاض بعد أن انتهت الهدنة ودمر الحي ومن فيه ولم يبق من أهله أحياء إلا القليل ممن هرب وترك كل شيء خلفه ناجياً بروحه.
في الحي أيضاً الخواجا الأرمني الخياط المتميز وابنته ألين، تذكر مأساة نزوح أهله إلى حلب عقب الحرب العالمية الأولى عام 1905م وسكنهم فيها، وخوفه من تكرار الحال، حاول إقناع ابنته بمغادرة حلب لمكان أكثر أمناً، لكن ابنته أخبرته أنها لا تعرف مدينة لها إلا حلب وستبقى فيها وانضمت لفريق من المسعفات والمسعفين، ساعدت في معالجة المصابين.
في الحي أيضاً أبو جمرة التاجر بالمال الأسود، الذي يكثر أمثاله في أوقات الحروب، كل شيء عنده قابل للبيع والشراء، حتى زوجته نوف البدوية التي كان قد اشتراها من ذويها وهي قاصر، عاشت عنده حياة الجحيم، وانتقمت منه بخلق علاقة حرام مع أحد رجالات الحارة. أبو جمرة وجد الحرب فرصته وبدأ يشتري كل ما عرض عليه من بيوت وأثاث وعقارات، كان يتحرك وفق إرادة أطراف عُليا من المسؤولين الفاسدين، بحيث ظهر وكأن هناك مخطط لتهجير أهل الحي والعمل لتغيير ديمغرافي فيه.
كذلك يوجد في الحارة الجقجوق الرجل الذي كبر في حضن عائلة مفتتة، الأم كانت عاهرة بالسر من وراء زوجها، وكان الجقجوق يعلم ذلك ويراه منذ طفولته من والدته والرجال الذين يزنون معها. نشأ مشوهاً نفسياً وجسدياً، منبوذ اجتماعيا. كانت الحرب فرصته، ليحصل على الأجساد الانثوية المقتولة بفعل الحرب والقصف والدمار، التي لا يوجد من يدفنها، ويحتفظ بها في قبو مهجور ويفرغ عليها عقده الجنسية ويجامع جثثاً ميتة، استمر حاله هذه حتى انتهت الهدنة وتم تدمير الحي، وفي البحث بين الأنقاض في البيوت والأقبية المدمرة، وجد هو مختبئاً بجوار جثث النساء المتحللة، وجده عبد السلام ويحيى وغيرهم مع جريمته الحاضرة أمامه، فعاجلوه ضرباً وطعناً بالسكاكين مجتمعين وقتلوه.
في الحي الخوجة المرأة المتزوجة العاقر، التي أنقذت هبة الطفلة من تحت الأنقاض وجعلتها ابنتها وعاشتا حياة إنسانية في ظروف مأساوية. في الحي الكثير من الناس أيضاً.
لكن الأهم من سكان الحي كما يظهر في الرواية هو أبراهام اليهودي وزوجته المريضة وابنته ليزا.
هاجر الكثير من يهود حلب سابقاً، منهم موشي دايان الذي سيصبح وزير الحرب في الكيان الصهيوني، أبراهام واحد من اليهود القلائل الذين استمروا بالحياة في حي البندرة ولم يهاجروا إلى الكيان الصهيوني أو أوروبا أو أمريكا.
كان يظهر أنه موجود في الحي لأهداف معينة، فهو جزء من تنظيم يهودي سري له رموزه الخاصة، وطقوسه، واجتماعاته السرية، كان جزءاً منهم، يحتفظ عنده بنسخة توراة قديمة جداً منسوخة يدوياً، ويحتفظ بالكثير من الآثار التي يود أن يهربها خارج سوريا، وأهمها تمثال الإله حدد إله الخصب. كان يخطط ليضم ابنته لتنظيمه السري المسمى إخوة الحليب والدم، وكذلك لضم عبد السلام للتنظيم وذلك عبر الضغط والتأثير عليه كونه يحب ليزا ابنته، ليزا التي كانت تحبه أيضاً.
كان هدف أبراهام هو تهريب تمثال حدد خارج سوريا، بدعم من تنظيمه السري إخوة الحليب والدم، الذي ظهر أنه منتشر في أوساط كثيرين من الفاسدين في السلطة في سوريا.
حتى عبد السلام، كان ضحية خطة مقصود بها ضمه إلى إخوة الحليب والدم، فقد زارت سائحة كندية اسمها سوزانا حلب ووصلت إلى حي البندرة، وصنعت علاقة قوية مع عبد السلام، ذهب معها إلى كل المراكز السياحية التي تزخر بها حلب، أقدم مدينة في التاريخ، قلعتها، أسواقها، معابدها، جوامعها، كل شيء، ومن ثم صحبته إلى مكان سكنها وشربت المسكرات وأحرجته فشرب معها.
وفي وقت متأخر عندما استحكم السكر به، حصل بينهم ممارسة جنسية، ندم عليها عبد السلام بعد ذلك.
وسافرت سوزانا عائدة إلى كندا، لكنها بقيت تتواصل معه وتحدثه عن حمل حصل معها بعد تلك الليلة، ومن ثم جاء طفل أسمته يوسف وأخبرته أنه ولده، استنكر الأمر في البداية، لكنه أقر به لاحقاً وقرر تسمية الطفل مصطفى على اسم والده.
أخبرته سوزانا بعد ذلك أنها يهودية حلبية الأصل، غادرت حلب إلى كندا مع أهلها في تسعينيات القرن الماضي، وعندما حصلت الحرب وقرر أبراهام تهريب تمثال حدد، كان عبد السلام المؤهل وفق خطة محكمة أن يقوم بعملية التهريب، اجتمع به بوجود ابنته ليزا حبيبة عبد السلام، وأخبره بقصته مع سوزانا وأطلعه على صور إباحية له عن تلك العلاقة بين عبد السلام وسوزانا. وكان ذلك مقصوداً، وأنه ملزم أن يصبح معهم من إخوة الحليب والدم أو يفتضح أمره. وقدموا له كأس الحليب ليشربه تتويجاً بانتسابه لتنظيمهم اليهودي السري.
وكلفوه بتهريب التمثال بمساعدة أفراد التنظيم المتغلغل في السلطة والدولة. وهو أعلن التزامه، لكنه نسق بالسر مع يحيى صديقه الوفي. حيث كانا تعاهدا أن يتسلحا ويبنيا مجموعة من شباب الحي تدافع عنه وعن أهله وناسه.
وهكذا خرج التمثال وفق خطة أبراهام. لكنه انحرف عن مساره في لحظة واصطدم أنصار ابراهام مع مجموعة يحيى بالسلاح وعاد التمثال إلى موقعه الطبيعي وهو المتحف الوطني في حلب. وسقطت خطة أبراهام.
على مستوى آخر ستنتهي الهدنة في حي البندرة وتعود المعارك على أشدها، ويحصل القصف والتدمير، تتهدم البيوت على رؤوس أهلها، يموت الناس وتتبعثر جثثهم مع حطام بيوتهم، لا يحدد من الفاعل لكن يظهر أن الفاعلين كثيرون ومن جنسيات مختلفة وخلفيات مختلفة.
الحساب الختامي لحي البندرة، بحث من بقي حيا عن جثث من مات تحت أنقاض بيته أو استخراج طفل هنا وامرأة هناك وتجميع الأشلاء ودفن الموتى بأسرع وقت.. حلب تشهد موتها المعلن..
في الختام:
لا بد من طرح تساؤل لا يغيب عن القارئ والناقد للرواية وهو: ماهو المناخ العام السوري والعربي والدولي الذي صنع “الحرب” التي تحدثت عنها الرواية. والمقصود هنا ثورة الشعب السوري ورد فعل النظام العنفي، لكي يكتمل المعنى الدرامي للرواية، المكان والزمان والحيز المجتمعي والتاريخي الذي تحركت به الرواية.
غير ذلك:
نجح الروائي زياد كمال حمامي في إعادة إحياء حالة مجتمعية كاملة، أفراداً وجماعة في حي البندرة الحلبي ومن ورائه حلب وكل سوريا.
نجح في الغوص في ذات كل فرد وظروفه، حالته المجتمعية ونفسيته، رواسبه المجتمعية طموحاته، أحلامه الصغيرة، واقعه العادي أو الغريب أو المتميز..
وعندما شبهت الرواية برواية ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ، قصدت أنها رواية مجتمع بكل أفراده وليس رواية أفراد قلائل كعينات عن مجتمع، كما قصدت أنها تتحرك في مجال اجتماعي شامل هو مأساة الصراع والحرب، بما فيها من ويلات وموبقات وموت وخوف ودمار.
أوصلت الرواية رسالة الضحايا، ووضعت وصمة عار على جبين المجرمين جميعاً، المعلنين والمغفلين.
السرد متألق يجعلنا كقراء نتابع بشغف، رغم الألم مما نعايش، وبمشاركة وجدانية ومشاعرية، تعيد الحرب سوقنا كقراء إلى مقصلة الظلم في الحياة والمظلومية المدانة دائماً.
الرواية انتصار للناس العاديين المطالبين بحياة حرة كريمة عادلة.. وحياة أفضل.