fbpx

قراءة في رواية: فردقان – اعتقال الشيخ الرئيس

0 281
  • الكاتب: يوسف زيدان
  • الناشر: دار الشروق
  • ط1، PDF، 2018م

يوسف زيدان روائي مصري متميز جداً، له العديد من الروايات، يُعيد نسج التاريخ بطريقة روائية شيقة وممتعة، مع المحافظة على مصداقيتها وموضوعيتها.

فردقان – اعتقال الشيخ الرئيس، رواية تتحدث عن حياة “أبو علي حسين بن سينا” العالم الموسوعي في عصره. معتمدة على نمط الخطف خلفاً حيث تبدأ الرواية من لحظة قدوم الشيخ الرئيس ابن سينا إلى قلعة فردقان في بلاد فارس، معتقلاً عند حاكمها، ولحمايته من ثورة جند الأمير عليه.

ينتقل الكاتب في الحديث عن ابن سينا بين أزمنة مختلفة، يعود للوراء ويتحدث عن الحياة المباشرة اليومية في القلعة، جمالية ذلك مبهرة، بحيث تنتهي الرواية وقد اكتملت صورة حياة ابن سينا بكل عظمتها وخصوصيتها وتميزها، على المستوى الذاتي لابن سينا، كذلك إطلالة موسعة على عصره كله.

ولد حسين بن سينا في قرية محاذية لمدينة بخارى عام 370 هجرية، لوالد كان له حظوة كقائد عسكري، وكان من أتباع المذهب الشيعي الإسماعيلي، تتكون أسرته منه ومن أخيه الأصغر علي ووالدته ووالده. انتقل والده للعيش في بخارى منذ طفولة ابن سينا، حيث اشترى بيتاً وعاش فيه مع عائلته هناك.

وضع عبد الله والد ابن سينا ولده عند معلمين يدرسونه مع الأطفال في كتاتيب ليتعلم هناك الدين والفقه والتفسير والحديث ويحفظ القرآن وكذلك القراءة والكتابة ويطّلع على مجمل العلوم في زمانه.

أظهر ابن سينا نباهة وتفوقاً في متابعة لما يدرسه. حفظ القرآن في صغره. وشغف بالقراءة في كل مجالات العلوم، في عصر كانت فيه البحوث قد وصلت إلى أعلى مستوياتها، حيث كان العباسيون في ضعفهم السياسي كدولة خلافة، لكن في أعلى مستويات البحث العلمي والتدوين في العالم كله، حيث وجد علماء مثل البيروني والفارابي وأبي سهل المسيحي وغيرهم كثير.

تعلم ابن سينا كل ما توصل إليه علم عصره في مجال الطب بسن مبكرة، وبدأ بمعالجة المحيطين حوله. حتى ذاع صيته وأصبح يستدعى إلى الحكّام ويعالج أمراضهم، وهكذا أصبح قريباً من حظوة الأمراء والحكام في المقاطعات التي عاش فيها. ولأنه كان يقرأ أغلب وقته ويدوّن ويؤلّف حول ما توصل إليه من معارف، كان ينام القليل ويواظب على علمه وعمله بشغف عالم، ووله محب، والتزام صاحب رسالة. غاص في كل علوم عصره. الطب والفلسفة والفلك، أتقن العربية والفارسية وغيرها من اللغات. لذلك أصبح مرجع المحيطين حوله وخاصة الحكام حول كل الأمور والمستجدات، بما فيها السياسية التي كانت شديدة التغيير والفوضى، بحيث أصبح وزيراً عند بعضهم لثلاث مرات متتالية على فترات.

في ذلك الوقت حيث ضعفت سلطة الخلافة العباسية المركزية. واستقل كثير من حكام المقاطعات بشكل مطلق وبدؤوا صراعات بينية سيكون ضحيتها الكثير من الجند والناس نتيجة قتال غير مبرر، وفوضى عارمة ستؤدي للنهب والسرقة والتعدي على الحرمات.

هكذا سيكون واقع حال المقاطعات الممتدة في أرض فارس وبلاد باكستان وأفغانستان ممتدة إلى حدود الهند. كان البويهيين قد دانوا بالفكر الفاطمي الإسماعيلي، وأعلنوا ولاءهم للحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر، ما أدى لظهور صراع مذهبي سني شيعي مجتمعي وبين الحكام الذين أعلنوا ولاءهم للسنة أو الفاطميين.

محمود الغزنوي حاكم إحدى المقاطعات، أعلن انتسابه للمذهب السني وأعلن الحرب على البويهيين أصحاب المذهب الإسماعيلي، وبدأ معركة ضدهم ممتدة إلى سنوات طويلة. كذلك حروبه شرقاً لفتح بلاد الهند، وحكامها البوذيين وقتالهم وتدمير معابدهم وآلهتهم المجسدة على شكل أصنام وهياكل ومعابد، مع ما يعنيه ذلك من الحصول على الذهب الموجود فيها.

وفي العودة إلى ابن سينا في هذه الأجواء كان في مقاطعة تابعة للبويهيين وأصبح قريباً من أحد أمرائها، بسبب معالجته لأمراض مستعصية لهم، ونباهته السياسية وفطنته ودرايته وحكمته. فقد قدم نصيحة لأحد الأمراء بتحييد الجند عن السياسة وتخفيف أعطياتهم، وعدم اختلاطهم بالناس، كيلا يسيئوا لهم. وكتب بعد ذلك كتاب حول ذلك. ما جعل الجند وقادتهم حاقدين على ابن سينا، وأعلنوا هدر دمه، لكن الأمير أنقذه منهم وأرسله سراً الى قلعة فردقان، حيث حاكمها يتبع له. عاش ابن سينا في القلعة لفترة من الزمن، وقام بأدوار كثيرة هناك، عالج الحاكم فيها، وجنده والمساجين والناس العاديين أبناء القلعة وكذلك العبيد والجواري وهم كثر، حيث كانت الحروب الكثيرة الطريقة الأكبر لحصول فوضى وأسرى من النساء والرجال يتحولون إلى عبيد يباعون في سوق النخاسة.

رغم استغراق ابن سينا في التعلم والقراءة والتأليف في كل الشؤون في عصره، مع ذلك لم يكن يبخل على نفسه في إشباع أهم حاجة عضوية ونفسية في الإنسان وهي الحب والجنس. وكانت تجربته الأولى مع سندس جارته الأرملة التي تكبره بسنوات، وهو مازال يافعاً، وعندما علمت أمه بحالة، واجهتها وأساءت إليها بحيث ابتعدت عن ابن سينا، وهو التزم بمطلب أمه وابتعد عنها أيضاً، حيث كان قد طلب منها الموافقة على الزواج منها ورفضت، وانتهت سندس بعد ذلك لأن يقتلها عبيد لها لسرقة مالها بعدما هجرها ابن سينا. لذلك قرر ابن سينا مقاطعة النساء والحداد على حبيبته سندس المقتولة، والتزم بذلك لعشرين عاماً، حتى جاء إلى قلعة فردقان وهنا أهدي إليه جارية اسمها روان، شغف بها ابن سينا وهي كذلك، وعاد إلى حياة التمتع والإشباع الجسدي، تمتع كثيراً مع روان لكن ذلك لم يدم طويلاً، حيث تمت سرقتها من بيته مع متاعه وماله وأغراض بيته في إحدى تمردات العسكر وبحثهم عنه للقضاء عليه، لقد نُقلت إلى مدن أخرى وتم بيعها وخسرها للأبد.

عاد ابن سينا لفقده السابق لسندس ثم روان إلى الامتناع عن الاقتراب من النساء في شبه حداد. كان يشرب القليل من النبيذ ويراه موقظاً للروح والعقل والبدن.

تعرف ابن سينا في قلعة الفردقان على حبه الأهم في حياته، إنها ماهتاب الفتاة الناضجة الجميلة المتعلمة العالمة التي كانت تنافسه وتناظره في كثير من الأمور. لم يكن متاحاً التعلم للمرأة لكن والد ماهتاب ساعدها وأعطاها الفرصة، وسلكت طريقاً موازياً لطريق ابن سينا بالتعلم والمواظبة على النهل من كل أصناف المعرفة في ذلك العصر. عادت شعلة الحب لنفس ابن سينا وعاش مع ماهتاب أجمل أيام عمره.

لم تكن المتغيرات التي تعصف بالولايات لتسمح باستقرار الحال. فقد استمر الصراع بين الأمراء البويهيين على السلطة والحكم، خاصة أن بعضهم إخوة اختلفوا على تركة سلطة والدهم الحاكم بعد موته. لم يتوحدوا في مواجهة محمود الغزنوي المتوسع في الهند والملتفت لمواجهتهم في مقاطعاتهم، بعث ابن سينا رسائل لهم حتى يتوحدوا باسم حاكم قلعة فردقان. ووصل خبره إلى محمود الغزنوي فأهدر دمه وقرر حصار القلعة واحتلالها ولو بعد حين.

ألّف ابن سينا الكثير من الكتب في الطب والفلسفة وأغلب العلوم. بعضها بقي إلى عصرنا هذا وبعضها اندثر.

تتالت الأحداث مسرعة، ووصل محمد الغزنوي إلى فردقان وحاصرها وأسقطها، بمساعدة وخيانة نائب حاكمها. الذي ستقتله ابنة الحاكم الذي حولها لجاريته بعد ذلك. هرب ابن سينا قبل إسقاط القلعة بأيام وغادر إلى مقاطعة أخرى ونجا من انتقام محمود الغزنوي. لكنه أضاع حبيبته ماهتاب في غمرة محاولة نجاته.

كان لابن سينا رؤى فلسفية فكرية حول كل الموضوعات الدينية، كان ضد التمذهب على عكس والده وأخيه الأصغر علي اللذين كانا إسماعيليين. له رأي حول الكون والوجود والله والآخرة والمعاد، وحول الدين وضرورته، كان سابقاً لعصره وزمانه، كان يؤمن بالتواؤم بين العقل والدين وأن العلم والدين متحدان في خدمة البشر، يؤمن بالعدالة والخير العام وأن الاديان جاءت لأجل ذلك، وأن البشر هم من شوهوا ذلك وخلقوا حروباً على المصالح وعلى اختلافاتهم المذهبية والدينية. قال إن أغلب النصوص الدينية جاءت لتقريب الأفكار والمعتقدات لإفهام الناس. وتحدث عن معاد النفس والروح وليس الجسد. وأدرك مبكراً سوء البنية النفسية والعقلية للإنسان ونزعته للشر والظلم، وأن الإنسان ضحية جبروته وطمعه وأهوائه. وأن القليل هم الأنبياء والمصلحين والدعاة، وأن الشر انتصر في أغلب مراحل التاريخ وراح ضحيته الناس العاديون. بدمائهم وأموالهم.

لم يعد شغف ابن سينا للحياة كما كان قبل خروجه من قلعة فردقان هارباً، وخسارته لحبيبته ماهتاب، لذلك ترك نفسه ضحية حياة باهتة، كان قد أكمل أهم كتبه القانون في الطب والشفاء ورسالة حي بن يقظان يتحدث فيها عن الوجود والخلق والانسان في الكون، وغيرها كثير.

انتهت حياة ابن سينا عن عمر يناهز 55 عاماً على يد عبيده الذين وضعوا له الأفيون بكميات كبيرة قاتلة في شرابه، تجرعها رغم انتباهه إلى رائحتها وطعمها. استسلم لقدره، لعله يشتاق إلى ماهتاب ويود اللقاء بها هناك في عالم الأنفس عند الخالق الأول الله في ملكوته.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني