fbpx

قراءة في رواية “عين وردة”

0 298
  • الكاتب: جبور الدويهي
  • الناشر: دار النهار
  • ط2، ورقية، 2008م

جبور الدويهي روائي لبناني متميز، له روايات عدة، هذه أول رواية أقرؤها له.

عين وردة رواية تعتمد أسلوب الرصد من الراوي لشخصيات الرواية، يتابعهم بدقة، غير منضبط بالمكان أو الزمان أو تسلسل الحديث عن الشخصيات، الرواية تتدفق منه كمجرى نهر، تتجمع في الختام في وعي القارئ، تملأ فراغات الحوادث والشخصيات، رواية مغرقة بالتفاصيل، أليست الحياة تلك التفاصيل؟ يترك للقارئ استنتاج ما يستنتج.

تبدأ الرواية من عين وردة، تلك البلدة المزروعة في جبال لبنان، وإن أحببنا الدقة أكثر نقول تتحدث عن ذلك المنزل المبني قريباً منها، منذ بدايات القرن الماضي، منزل آل الباز، طبعاً متابعة المنزل وأصحابه وسكانه عبر قرن من الزمان تقريباً، المنزل هو الوعاء الذي عاش به آل الباز منذ الجد المؤسس فرانسيس الباز إلى آخر أحفاده، كل شخصية من هؤلاء حاضرة بكل خصوصيتها وتفاصيلها. كلها تحت مجهر الراوي الذي يصح أن نسميه الراصد.

يختلف آل الباز ومن جاورهم في منزلهم حول أصلهم، بعضهم قال إنهم من الجزيرة العربية، وكنيتهم الباز هي أحد أسماء الصقور المشهورة هناك، جاؤوا إلى بلاد الشام لعمل ما لهم وعندما وصلوا الى جبال لبنان وأطلّوا على البحر، قرروا الاستقرار هناك وبنوا منزلهم المتميز المشرف على ما حوله. بعضهم الآخر رجح أن عائلة الباز كانت قد هاجرت من لبنان إلى إحدى الأمريكيتين كما كان يفعل الكثير، وهناك عملت وأثْرت، بعثت على عادة الأغلب ممن يهاجر مالاً وبني البيت الذي سيعود إليه الجد المؤسس فرانسيس الباز، والذي سيكون له ابن يحمل نفس اسمه وسيكون هو من سيتزوج من إحدى نساء لبنان ويكوّن عائلة. كان فرانسيس رجلاً له حضوره عند الفرنسيين الذين كانوا يحكمون لبنان بعد سقوط الخلافة العثمانية، وكانت لبنان وسورية حصة فرنسا، الدولة التي يحس فرانسيس وغيره الكثير من مسيحيي لبنان بأنها أمهم وهم امتداد لها.

كانت علاقة فرانسيس مع طبقة الحكم الفرنسي قوية. كان له إخوة وأخوات أيضاً، أخته التي اعتبرت نفسها وصية على إرث العائلة وعاداتها وتقاليدها، لم تتزوج، استمرت بالعيش مع فرانسيس الذي تزوج من إحدى عائلات بيروت وأنجب جوجو ورضا وسارة، نشأ الاولاد في عز وثراء والدهم، لكن ذلك لم يدم طويلاً، توفي الأب مبكراً، ورث الأولاد مع أمهم بيتاً كبيراً مهماً، لكن لا مصادر أخرى للمال، أغلبهم باع ما تملكه العائلة من مواقع أخرى وصرفها على حياته وحاجاته، العائلة لا يعمل أحد منها. البيت وضعه الجد الأول في صيغة الوقف الذري، التي لا تخول الأولاد أو الأحفاد بيع البيت أو التصرف به إلا للجيل الثالث من الورثة، وهذا جعلهم في حيرة من أمرهم كيف يتصرفون في بيت سيغادره أغلبهم، البيت كبير وباهظ الثمن، ليس أمامهم إلا الاستسلام للأمر الواقع. يتابع الراصد حياة أفراد العائلة فرداً فرداً بالتفاصيل، أخت فرانسيس التي تتحول لوصي مهيمن على العائلة، حاضرة في كل صغيرة وكبيرة، لا تتجوز، تصبح عانساً، تكبر في السن إلى أن تصاب بالزهايمر، فما كان من أقربائها إلا نقلها إلى مشفى ومكان عيش يتابعها. أما الأولاد بدأ من كبيرهم جوجو فقد تزوج من امرأة نمساوية وعاشت معه في البيت لفترة من الزمن، ثم انتقلت مع زوجها إلى بيروت وعاشت معه هناك، يأتي بشكل متباعد لزيارة أخيه رضا الذي لم يغادر البيت أبداً، كذلك أمهم زوجة فرانسيس غادرت إلى بيروت، أما أختهم سارة فقد كبرت وهربت مع رجل مسلم وتزوجت منه، تنكر لها أهلها وقاطعوها، أما رضا فقد استقر في المنزل ولم يغادره، حكم على نفسه بإقامة شبه جبرية في الطبقة العليا للمنزل، رضا كان قد أحب نادية التي كان قد التقاها صدفة في بيروت حيث كانوا يحتمون في مدخل بناء من قذائف عشوائية أيام الحرب الأهلية اللبنانية، تعايش رضا وناديا كثيراً أحبا بعضهما بشغف، وصلت بينهما العلاقة إلى محاولة التواصل الجنسي، غير أن رضا عجز عن الفعل الجنسي، أُحبط كثيراً، تفهمت ناديا وضعه وحاله، واستمرا يعيشان حباً عذرياً قوياً، واستمرت لقاءاتهما الكثيرة وتعايشهما الدائم عنده في البيت أو في المقاهي أو عندها في البيت، أصبح يقرأ معها الكتب ويناقشها بها. لكن القدر كان قاسياً فقد صدمت سيارتها سيارة شحن كبيرة، بعد مغادرة لقاء كان بينهما، ما أدى لموت ناديا، انقلبت حياته لجحيم بعد موتها، انعزل عن العالم في بيته في غرفته، حيث كان كل سكان البناء قد غادروه، كان آل الباز قد أحضروا عائلة من العرب (البدو) لخدمتهم وللاستفادة من استثمار الأرض الملحقة بالمنزل، أسكنوهم في الطبقة الأرضية للبناء الذي أصبح شبه خال بعد أن غادره أغلب أهله.

يتابع الراصد حياة عائلة البدو بدقة، لا يهتمون بتعليم أبنائهم، يعيشون على ما يقدموه لهم أهل المنزل، حيث لم يبقى منهم إلا رضا، يعطيهم المال ليصنعوا له طعامه والفائض لأجل معيشتهم، يحاول رب العائلة عباس أن يعمل على سيارته ليزيد مصادر دخله، يتواصل عباس وعائلته مع أهله وعشيرته بشكل دائم.

أصبحت حياة رضا والبدو الذين يسكنون في الطبقة الأرضية شبه روتينية، رضا زاد انعزاله بعد موت ناديا حبيبته، وخاصة بعد أن بدأ مرض ذهاب لون أصابعه تباعاً، ووصل إلى وجهه، لقد عزل نفسه عن العالم، يجلس في غرفته يتابع من خلف الستائر، كل المتغيرات عند البدو الذين يعدون الطعام اليومي له، يضعونه في سلة مربوطة بحبل يسحبه هو يأكل ويعيد لهم الصحون إلى وجبة أخرى.

حدث متغير قلب حياة البدو ورضا، لقد حضرت فتاة من البدو قالت إنها ابنة خالة الزوجة وإنها هربت من أهلها لأسباب لم تقلها، لم تتقبل الزوجة هذه المرأة خاصة أنها جميلة، وقد يفكر زوجها أن يتزوجها.

سارع عباس وأقرباؤه لعقد مجلس حول مصير المرأة، التي عرف أن أخويها كانا يعملان بسباق الخيل وفسدت أخلاقهم وأعمالهم من كثرة النقود بين يديهم، كانوا يغشون بحقن الخيل بمقويات قبل السبق وعندما كشف فعلهم وضعا بالسجن ثم خسرا مهنتهما، وعند خروجهما من السجن، أصبحا يشغلون أختهما بالدعارة للحصول على المال، وهي لم تحتمل ذلك، هربت إلى قريبتها زوجة عباس.

رصد رضا مجيء الفتاة، كما أنها علمت بحكايته، ومع مرور الوقت، أصبحت تهتم أن تراه وتتواصل معه، وكذلك هو، ويصلان إلى بعضهما وتحصل بينهما علاقة جنسية، يترصدها من حولهما، يكتشفهما رضا ويطلق النار عليهما، يصيب أحدهما، يحضر الدرك، يعاينون المكان ويسمعون الحكاية، يهرب رضا وتغادر الفتاة المنزل، يحكى أن رضا والفتاة بدأا حياتهما خارج المنزل.

هناك تفاصيل أخرى حول المنزل لقد استدعى محامي العائلة رضا وجوجو وأمهما وأخبرهم أن البيت سيؤول إلى أبناء أختهم سارة المتزوجة من المسلم ابن الصباغ، لأنهم لم ينجبوا ورثة لهم، رفضوا ذلك، اقترح عليهم أن يهبوا حصصهم الإرثية الى الكنيسة المجاورة، بهكذا يضمنون ألا تذهب للمسلم؟!!. وبقي الأمر مفتوحاً يعني لم يصلوا إلى حل.. تنهي الرواية عند هروب رضا والفتاة من البيت.

في تحليل الرواية نقول:

تنجح الرواية في الخوض العميق بدأب حول شخصياتها، تتابع كيف يعيشون؟ وبماذا يفكرون؟، ومبررات أعمالهم، الراوي يتقمص شخصيات الرواية حتى الأطفال، يترصد كل كبيرة وصغيرة، يريد أن يعيد الحياة لحقبة وإلى شخصيات نراها دائماً أمامنا في الحياة.

لكن الرواية التي تمس تغيرات المجتمع منذ الوجود الفرنسي في لبنان حتى انتهاء الحرب الأهلية يعني تسعينيات القرن الماضي، لا تتحدث عن أهم فاعلي المجتمع فيها، ماذا عن الحرب الأهلية؟، لماذا حصلت؟ وكيف؟ ومن الفاعلين فيها؟ ليس كافياً التحدث عن قذائف ورصد ومراقبة وتحفز، إنها حرب غيرت حياة أهل لبنان لعقدين من الزمن، أين الوجود الفدائي الفلسطيني الذي أصبح جزءاً من النسيج المجتمعي والسياسي والعسكري في لبنان؟ أين الوجود السوري الذي قيل عنه احتلال بجدارة؟ وتبعياته على لبنان، حيث أسقط وأفنى قوى سياسية وعسكرية، وخلق قوى سيطرت على الدولة والمجتمع ومازالت للآن مهيمنة عليه، نموذجها حزب الله.

لبنان ضحية التدخلات الخارجية وصراع القوى المحلية والدولية، ماذا عن اجتياح لبنان واحتلال بيروت من العدو الصهيوني في ثمانينيات القرن الماضي؟.

نعم الرواية ناقصة بهذا المعنى، وكأننا نقرأ رواية عين وردة، القرية الموجودة هي وبيت آل الباز في المريخ.

قد يكون للروائي مبررات لكتابة روايته بهذا الشكل، فقد نشرها عام 2002م، يعني مازال النظام السوري في لبنان إله ظالم ومسيطر ويُعبد.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني