قراءة في رواية “سعدية والأقشيش”
اسمحوا لي بداية أن أعترف لكم أنني أكتب كقارئ فقط، ولست كاتباً، ولست أديبا، ولست ناقداً. أكتب لأعبر عن رأيي كقارئ لهذه الرواية؛ رواية سعدية والأقشيش، للكاتب المهندس وليد شعيب.
سعدية وذاك اليافع المقبل على الحياة من أوسع أبوابها. لذلك، لن أقتحم مكاناً ليس لي به قدرة، ولا أغوص ببحر لا أتقن فيه السباحة والنجاة، فلن أتحدث عن لغة الرواية، ولا عن بنائها ولا عن عناصرها المميزة، ولن أتعرض لما قدمت الرواية من إبداعات، سواء في الشكل أو في المضمون (الموضوع ). بل سأخرج نفسي من دائرة نقد الرواية وأترك ذلك لذوي الاختصاص كي لا أظلم نفسي وأظلم الروائي وأظلم الرواية، بل سأكتفي بعرض إحساسي بالرواية وشعوري بها والأثر الذي تركته عندي، وهذا يخصني أنا، وقد لا أشترك به مع قارئ آخر.
ما شدني لهذه الرواية وشدني أكثر لإتمام قراءتها سطراً سطراً، وورقة ورقة، ذاك الأسلوب السلس الذي يعبر عن مصداقية وجدانية واضحة، حقاً كان الكاتب أميناً لمقولة الكاتب الكبير أنطون تشيخوف؛ أن يكتب دون أن يفكر بشكل كتابته على الإطلاق، بل يدع هذا الشكل يسيل من نبع روحه، فروح الكاتب الروائي وليد شعيب، كانت تنساب منها الجمل بكل صدق ووضوح، ببراعة وإتقان، ينتقل بين الأفكار ككنارٍ عاشق يعزف أرق الألحان وأعذبها، ألحاناً منوعة، منها الحزينة أحياناً، والسعيدة أحياناً أخرى، ويتنقل بين ثناياها كالنسيم العليل الدافئ يطرز شالاً من الفرح حيناً وشالاً من الكآبة حيناً آخر.
وينتقل من مكان إلى آخر دون حواجز أو جوازات سفر، من سوريا إلى لبنان إلى مصر إلى ليبيا إلى تونس إلى فرنسا، ليقول لنا، مهما اختلفت الظروف والأحوال وتباينت العادات والتقاليد، إن الرابط الإنساني بين البشر يعلو كل الروابط الأخرى، وإن الهموم والمعاناة الإنسانية مهما اختلفت ظروفها وتباينت أشكالها هي في الجوهر واحدة تعكس إنسانية الإنسان وحرياته وكرامته وقلبه وعقله ليؤكد لنا أن الشمس تشرق على الجميع، لكن، لبعضهم تحمل النور والجلاء، ولبعضهم الآخر تحمل النار والعماء، وقد يتناوب ذلك بين البشر ويعيش كل منا هذه الحالات بكل صورها. كما ينتقل من مشهد إلى آخر كالفراشات الملونة متجاوزاً حدود الزمن والمسافات الجغرافية.
تجده في فرنسا فينتقل وإياك إلى سورية أو لبنان أو الجزائر. وتجده في الجزائر فينتقل وإياك إلى سورية أو لبنان انتقالاً دون تكلف، وسفر دون حواجز وعناء، وضيافة دون تكليف وإحراج.
ومثلما يمزج بين اللاشعور المنساب من روحه والشعور المكلل بالوعي والقيم النبيلة، يتركك مسروراً بين صوره كما هي لتحلق بخيالك في عالم الرمزية غير المغرقة في الغموض، كما ينتقل بأسلوبه اللغوي وصياغته التعبيرية ببراعة من الفصحى إلى العامية أحياناً، فيجعلك تعيش اللحظة في مكانها وزمانها وأسلوبها بين المجتمعات المختلفة المنسجمة بداخله كمجتمعات إنسانية، فيصف المكان حامل اللوحة التعبيرية بطريقه بديعة تجعلك تشعر بأنك تعرف هذا المكان أو ذاك وكأنك جزء منه، كما يدهشك وصفه للشخصيات ورسمها بالكلمات بطريقة تجعلك تشعر بأنك تعرفها منذ زمن وليست غريبة عنك، كما أنك لست غريباً عنها، فتخال أحد أفراد الرواية وكأنه فرد في أسرتك، أو ذاك الصديق الحميم، أو آخر من معارفك في أماكن مختلفة. كما أنه يجعل من الجزئيات في الشخصية ما يشد انتباهك فتتوضح صورتها شيئاً فشيئاً كصورة طبق الأصل، وتصبح علاقتك بها وتعلقك بحركتها ومشاعرها كالتعلق بين إحساسك وخيالك، فتتحول شخوصه عبر اللغة إلى شخصيات من لحم ودم، تشدك لها، تناديك لتبقى معها وتلامس إحساسك وخيالك وكأنك ومجتمعك وأهلك وذويك ومعارفك جزء من هذه الرواية، وخصوصا أنها لا تخلو من جمال الوصف، وينطبق كل ذلك على وصفه للمكان.
كما تنقلك الرواية بأسلوب مرن من حدث سياسي وطني إلى حدث آخر ببراعة، تشدك له ولا تفرضه عليك فرضاً، وهذا يعبر بكل أمانة عن قناعات المؤلف الوطنية والإنسانية، ويكشف ملابسات الحدث وحيثياته وظروفه وتفاعلاته وانعكاساته ونتائجه أحياناً، ولا يغفل الحوار السياسي أو الحزبي تناقضاته واختلاف الآراء وتنوعها. ويعرض كل ذلك بطريقه سلسة دامجاً فيها الفكاهة مع الجدية أحيانا والفردية مع ما هو عام ومشترك يربطها بالعادات والتقاليد والموروث حتى مع الألعاب وحياة الأطفال الرقيقة البريئة والأطفال اليافعين المنفتحين الحالمين غير المشوهين بعد.
ولا أدري إن كان الكاتب يقصد بسرده بعض العادات والتقاليد والألعاب وحياة الأطفال ومشاكلهم وشقاوتهم يرغب بتوثيق الذاكرة الشعبية وما يتعلق بها من خصوصية تختلف من مكان إلى آخر. وأرى أنه قد نجح بذلك، فهذا أنت كقارئ أمام رواية يفوح من حروفها عبق الحرية ورفض الاستبداد، وتنضح بأفكار مفعمة بالإنسانية وحب الوطن، وتسير جملها سلسة رقراقة كسيل الماء في ساقية حولها الخضرة والزهور والورود والأشجار الجميلة بألوانها، الفواحة بشذاها وبكل ما ينعش الروح، خيال ملون بألوان قوس قزح ينسج حلماً بل أحلاما ترتبط بالواقع بياطر من فولاذ وحب وأخلاق، فتنساب عبارات الوصف من بين جناحي أحلامه بلغة إنسانية، وبشفافية وجمال وعذوبة.
وإن هذا لا ينفصل عن ذاك، أي لا ينفصل جمال المكان عن جمال الشخصيات، وعن جمال الرؤيا، بل تتركب بهم ومنهم صورة متكاملة موحدة بعلاقة جدلية خلاقة، صورة لحلم مبرر منطلق من الواقع بكل ما فيه من جمال وحب وتواصل إنساني، ومن تعب وشقاء ومعاناة وقهر وحرمان.. وليؤكد لنا أن الجمال لا يأتي من السماء، بل الجمال، حتى الجمال الإلهي، يأتي من هذا الواقع.
ومن جماليات هذه الرواية وأهميتها أنها لا تهمل كما لا يهمل كاتبها أهمية التفكير الحر والإبداع وأهمية تجاوز حالة الركود المنبثقة من العادات والتقاليد، فيصدمنا بعادة من العادات الاجتماعية صدمة عقلية معرفية تحفز ما بداخلنا للنهوض، وتحرك الماء الساكن الذي ورثناه، فيتحرك عند كل منا العقل وتفكيره وإبداعاته وأخلاقه وطموحاته وبصورة نقدية موضوعية ليست خافية على الكاتب، كما أنها لا تخفى على كل من يقرؤها.
رواية تجذبك بكل ما فيها، بكل ما احتوت من ثقافه وحلم وعقل وإحساس وشعور، تجذبك لتتعامل مع مفرداتها جملة جملة، وصورة صورة، وفكرة فكرة، ولا تعطيك فرصة التفكير متى ستصل إلى النهاية. بل أنا حزين لأنها انتهت، كنت أتمنى أن تطول أكثر، وتدوم أكثر، كنت سعيداً بما أقرأ في هذه الصفحة أو في هذا الفصل أو ما تحت هذا العنوان أو ذاك، منسجماً مع قيمها وغناها السلوكي الرفيع والأخلاقي بامتياز، غير متناس إحساس الغريزة المغلفة بثوب حريري من الأخلاق والتربية الحسنة، أنتقل عبر صفحات الرواية وأفكارها بقارب يتميز بالرشاقة، وبسحر روائي ممتع ومفيد، ولا أخفيكم أن هذه الرواية أعادتني 50 سنة إلى الوراء، إلى الزمن الجميل، إلى روايات الياطر والمستنقع وبقايا صور، وغيرها للمرحوم الروائي الكبير حنا مينا، إلى طفولتي لمكسيم غوركي، إلى نجيب محفوظ في أولاد حارتنا، إلى روايات وإبداعات أدبية أحببناها وكان لها الأثر الكبير في بناء شخصيتنا.
كلام متميز من شخص مثقف
احيك استاذ سليمان