- الكاتب: جان دوست
- الناشر: دار الساقي
- ط1، PDF، 2017
جان دوست روائي كردي سوري متميز، قرأت له رواية باص أخضر يغادر حلب.
ثلاث خطوات إلى المشنقة، رواية تتحدث عن الشيخ سعيد بيران النقشبندي، الذي قاد حركة كردية ضد الدولة التركية الوليدة بعد سقوط الخلافة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى وولادة الدولة التركية، ومحاولة الأكراد القيام بحركات مسلحة للحصول على دولة خاصة بهم في ديار بكر وبقية المناطق حيث الوجود الكردي بكثافة عالية.
الحدث المركزي في الرواية هو سوق جنديين تركيين الشيخ سعيد إلى حبل المشنقة، حيث كان قد تم الحكم عليه بالإعدام هو وعشرات من الأكراد الآخرين بتهمة التمرد المسلح على الدولة التركية وقتل جنود أتراك.
وفي هذه المسافة بين مكان سجنه والمشنقة التي نصبت له ولرفاقه، يسترجع الشيخ سعيد تاريخه الشخصي، منذ طفولته حتى اللحظة التي يعدم فيها.
تتابع الرواية السرد على لسان الشيخ سعيد بلغة المتكلم، على أنساق متداخلة، يتحدث من خلالها عن نفسه، طفولته، تعليمه وتتلمذه على أيادي مشايخ الصوفية النقشبندية. والده كذلك شيخ صوفي نقشبندي. وعن حبّه للفتاة بريخان التي عملت في الخدمة المنزلية عند عائلته. ومتابعته للقضية الكردية وتطوراتها، أيام الدولة العثمانية، وبعد سقوطها، ومعاهدة لوزان وقيام الدولة التركية وحركته مع غيره من الأكراد لبناء دولة كردية مستقلة.
ولد سعيد بيران النقشبندي في أواسط القرن التاسع عشر، لعائلة كردية، في ديار بكر، والده رجل دين ينتمي للطريقة النقشبندية الصوفية، حيث أصبحت الطريقة لصيقة بهم، كنية له ولوالده قبله.
أرسله والده منذ طفولته إلى أحد مشايخ الصوفية من أصدقائه ومن طريقته النقشبندية، ليتعلم ابنه عنده ويتشرّب الطريقة، كان يحضر إلى أهله على فترات متباعدة، يزورهم ويجلس عندهم لفترة ويعود إلى شيخه ويتابع تعلمه، كبر على هذه الحالة، دخل طور المراهقة.
في زيارة لبيت أهله وجد عندهم فتاة فاجأته بجمالها وحضورها، إنها بيرخان، عرف أنها تعمل في الخدمة في منزلهم، أحسّ تجاهها بمشاعر خاصة، علم أن والدها كان من الأكراد الذين يسكنون في المناطق الفاصلة بين الدولة العثمانية والروس، وكانت الحروب دائمة هناك، هاجر إلى مناطق أكثر أماناً، وصل الى ديار بكر، ولكن زوجته توفيت وكانت ابنته صغيرة، وعندما كبرت قليلاً، ذهب إلى والد الشيخ سعيد وأخبره بحاله، وأهداه ابنته لأنه يراه الأكفأ لحمايتها وصونها، وهكذا أصبحت بيرخان من عائلة سعيد، كان فرحاً بوجودها، اكتشف أنها تبادله مشاعر الحب، كان يختلق الأسباب والحجج لكي يلتقي بها ويحدثها، ووصل إلى مرحلة صارحها بحبه، وأخبرته أنها تبادله المشاعر، صارا ينتهزان الفرص ليلتقيا، ويحصل بعض عناق وقُبل، أهدته شالاً أخضر اللون مرسوم في وسطه شمس ذهبية، سيبقى الشال في حوزته كل عمره. لكن فرحة سعيد لم تكتمل فقد سقطت بيرخان في بئر العائلة عندما كانت تسحب الماء لتسقي سعيد، تم إنقاذها، لكنها ماتت بعد ذلك. سبّب موتها حرقة في قلب ونفس سعيد لم ينسه كل عمره، وها هو يسترجع بيرخان وحبه لها وتوقه لرؤيتها، وهو يجرّ خطواته الى المشنقة بصحبة العسكريين الأتراك في سماء مظلمة إلّا من بعض النجوم، وتظهر المشانق وقد امتلأت بعشرات الجثث المدلاة، لمن حكم عليهم بالإعدام معه ومثله.
يسترجع الشيخ سعيد طفولته وشبابه وعمره كلّه، يتذكر تلمذته على يدي شيخه وتشرّبه الصوفية النقشبندية، الطريقة المنسوبة لشيخها الأول النقشبندي، وهي طريقة لها أورادها، وحلقات الذكر، وفيها عالمها الداخلي الذي يعتقد مشايخها ومريدوها، ككل الصوفية، ببعض الخوارق، وفي التقدم إلى لحظات إشراق وتوحد صوفي مع ذات الله سبحانه وتعالى، تدرّج سعيد من مريد صوفي ليصبح شيخاً فيها، له مريدوه وأتباعه، وأصبح مرجعاً في الطريقة في منطقة ديار بكر وما حولها.
يسترجع الشيخ سعيد محطات كثيرة في تاريخ الأكراد الذين ينتمي إليهم، في ديار بكر وما حولها، وكيف كانوا متلائمين مع الدولة العثمانية، وكان بعضهم من جنودها الذين يخوضون معاركها على كل الجبهات، لقد كانت الحدود الشمالية للدولة العثمانية المحاذية لروسيا، منطقة صراع دائم، وكان وقودها أهل هذه البلاد من المدنيين أو أبنائهم المنخرطين في الجيش الروسي أو العثماني، لقد كان بين الجيش الروسي كثير من الأرمن، وكان لهم أدوار عسكرية، وكانت سمات حروب ذلك الوقت، اجتياح المناطق والتنكيل بأهلها، وهكذا تراكم في عقلية الدولة العثمانية وبعدها الدولة التركية الوليدة، أن الأرمن يعملون لخدمة الأعداء في الداخل، ويحاربون الدولة من الخارج، ومن هنا يحضر جواب عن سبب ما حصل مع الأرمن من مذابح وتهجير من قبل الأتراك إبّان بناء الدولة، ويوضح الشيخ سعيد أن الأكراد أنفسهم في مناطقهم، كانوا ضحايا العدوان والقتل والتنكيل من الأرمن في كثير من المرّات عبر تاريخهم، وذلك عندما كانوا جزءاً من قوام الجيش الروسي في معاركه الكثيرة مع الدولة العثمانية.
يعود الشيخ سعيد إلى مرحلة سقوط الدولة العثمانية، قرارات لوزان، الاتفاقيات التي صدرت عنها في أوائل عشرينيات القرن العشرين، وكيف ثبتت حقوق المنتصرين، في الحرب العالمية الأولى، الإنكليز والفرنسيين، ومعهم ممثلي الدولة التركية الوليدة الذين صمدوا وصنعوا دولتهم بحدودها الحالية، التي استطاعوا السيطرة عليها، بعدما تقاسم الفرنسيين والإنكليز والروس كثيراً من البلاد التي كانت تحت سلطة الدولة العثمانية، كان الأكراد، حيث وجودهم في ديار بكر إلى السليمانية وغيرها، يحلمون بأن يكون لهم دولتهم طالما سقطت الدولة العثمانية، وتشكلت الدول القومية، لكن ذلك كان مجرد أحلام، لأن السياسة تعترف بالحقائق؛ فقط عندما تسندها القوة، مناطق الأكراد توزعت بين الدولة التركية الوليدة، وبعضها في العراق المحتل من الإنكليز، وكذلك في إيران. لكنّ الشيخ سعيد وكثير من أكراد ديار بكر وما حولها لم يقبلوا بذلك وبدؤوا التحضير للثورة على الدولة التركية، والعمل لبناء دولتهم الخاصة. لكن هذه الأمنية لم تتمكن من التحقق على الأرض، لأسباب كثيرة، فلم تكن تدعمها أي قوة دولية، ولم يكن الأكراد على قلب واحد، فكثير من رؤساء القبائل والآغاوات كانوا يرون مصلحتهم مع الدولة التركية، وكان لهؤلاء دور في عدم نجاح الحركة الكردية. كذلك الاختراق الاستخباري، ووجود الجواسيس من الأكراد أنفسهم بين الثوار كان له دور في ضرب الحركة. كذلك عدم انضباط أغلب الثوار بالخطط التي وضعها الشيخ سعيد، والتسرع في أكثر الأحيان، ما أدى لكشف التحركات قبل إتمامها، ومبادرة الأتراك بالحرب ضدّهم قبل إكمال استعدادهم، جعلهم يقعون ضحية هزائم متتالية. حاول الشيخ سعيد رغم ذلك أن يجمع بعض أنصاره، والتوجه لديار بكر والسيطرة عليها، لكنه لم ينجح، كان الجيش التركي أسرع، عدّة وعدداً وانضباطاً وتنظيماً. كل ذلك أدى لهزيمة التحرك الكردي بقيادة الشيخ سعيد، والقبض على قادة التحرك، وعلى رأسهم الشيخ سعيد، وزجّهم بالسجن، ومحاكمتهم صورياً، والحكم على العشرات من قادة التحرك بالإعدام، وتنفيذه.
هاهو الشيخ سعيد السبعيني يجر خطواته نحو المشنقة، يقوده الجنديان التركيان، يتذكر صديقه الصوفي الذي يرمي جوزاته على قبب المآذن ينتظر أن تعلق هناك، إنه ينتظر معجزة لن تأتي؟!. تماماً كحلم سعيد بالدولة الكردية الذي لم يتحقق على يديه. يسترجع حبيبته بيرخان ويتذكرها بحنان. يترقب الموت القادم ليصله بالحبيبة الذي افتقدها منذ أكثر من خمسين عاماً، ينتظر أن تأتي لحظة الإعدام ليتسنّى له سؤال الله سؤال لم يستطع أن يقوله، لأن حبل المشنقة عاجل أنفاسه وأزهق روحه قبل أن ينطق بسؤاله.
في لحظة الشنق وموت الشيخ وصعود روحه إلى بارئها، وعجزه عن طرح سؤاله تنهي الرواية.
في تحليلي للرواية أقول:
إننا أمام رواية أخرى لجان دوست تؤكد وجود موهبة روائية، إنه متمكن من ناصية اللغة والتعبير، والخوض عميقاً في الذات الإنسانية، ممثلة بالشيخ سعيد كنموذج، الإطلالة على العصر الذي يتحدث عنه، التبحر في موضوع التصوف، الانتصار للحقائق التاريخية، حول الأكراد في تلك المرحلة وما قبلها، تحدث عما لهم وما عليهم. وكذلك عن الدولة العثمانية، وأنار بموضوعية، موضوع الأرمن وحكاية المذابح، وأن الكل كانوا متورطين بذلك، بمن فيهم الأكراد والارمن والأتراك. ووضع النقاط على الحروف، وأعاد قراءة الواقع كما حدث وضمن شروطه الواقعية والتاريخية دون تحيز أو مبالغة. وهذا ما حصل حتى في الحراك الكردي من أجل استقلالهم، وإظهار العيوب الداخلية بين الأكراد أنفسهم وعدم توحدهم على قلب واحد، تشتتهم وانتهازية بعضهم وخيانة بعضهم الآخر، والتحاق بعضهم بالدولة التركية.
إن الرواية عبر إطلالتها على الماضي تحاول إيصال رسائل عن الحالة الكردية الآن.
ونحن نقول إن واقع الأكراد منذ حركة الشيخ سعيد وبعدها حركة مصطفى بارزاني، كانت كل الوقت، ضحية استثمار من الدول الأجنبية المتحكمة؛ الفرنسيين والإنكليز سابقاً، والأمريكان والروس الآن. لم تنجح إلا في تحقيق الحكم الذاتي شمال العراق، وتحت الرعاية الأمريكية، وفيها كل عيوب الأنظمة الاستبدادية، من صراع السلطة، بين البارزاني والطالباني، والتوريث في الحكم، ونهب الثروات من طبقة الحكم وعصبتهم. وعند التحدث عن الـ PKK، حزب العمال الكردستاني، وأدواره التخريبية في تركيا منذ الثمانينيات، وكونه مجرد أداة بيد النظام السوري ضد الأتراك، وتحوله بعد الثورة السورية، ليكون بمسماه الجديد: الـ PYD، قسد ومسد ليكون أداة بيد الامريكان للسيطرة على منطقة شرق الفرات والشمال الشرقي لسورية، لمصلحة الأمريكان، وليكونوا أداة احتلال ونهب وظلم لكل مكونات الشعب السوري بمن فيهم الأكراد في مناطق سيطرتهم…الخ.
لكل ذلك كانت الرواية بمثابة دق ناقوس الخطر لشركائنا الأكراد في الوطن سورية، أن يدركوا ويعرفوا ما يحاك لهم وأن يكونوا جزءاً من حراك الثورة السورية لإسقاط النظام ومحاسبته وتحرير سورية من الاحتلالات الروسية والإيرانية والمرتزقة الطائفيين، وبناء الدولة السورية الديمقراطية العادلة لكل السوريين، أرضاً وشعباً.
نعم إن الكثير من أهلنا الكرد أدركوا هذا الموقف ومارسوه على الأرض، نموذجهم المرحوم مشعل تمو ورفاقه الحاملين مشعله، المستمرين على طريقه، ونحن معهم.