قراءة في رواية: بروفا
- الكاتبة: روزا ياسين حسن
- الناشر: الكوكب، رياض الريس للنشر والتوزيع
- ط1، ورقية، 2011م
روزا ياسين الحسن كاتبة سورية متميزة، هذه الرواية الثالثة التي نقرؤها لها، بعد: الذين مسهم السحر وحرّاس الهواء، وكلهم يتابعون الانسان السوري ضمن واقعه الاجتماعي والسياسي والانساني.
بروفا رواية مختلفة في أسلوب الكتابة عند روزا، رغم إدراكنا أن الكتابة الروائية غير ملتزمة بخط محدد، وهي متنوعة بشكل كبير. اختلاف بروفا عن غيرها من الروايات يبتدئ من اسم الرواية حيث يوحي أننا أمام عمل روائي قيد الإنتاج وليس ناجزاً، نعم قدمت الرواية على أنها هي كذلك، ما يعنى وجود هوامش وملاحظات وإحالات وتفسيرات تظهر وكأننا شركاء مع الكاتبة في إنجاز النص، لقد جعل أسلوب الكتابة هذا غرابة وفرادة وأحياناً دخولاً عشوائياً على السياق ينقلنا بتعسف أحياناً من حالة إلى حالة، لكن في المحصلة وعند إنجاز قراءة الرواية، سنجد – كقراء – أننا أمام عمل روائي مبهر. وإذا انتقلنا من تقنية الكتابة في الرواية إلى المحتوى، فنحن أمام موضوع مثير، الرواية مصاغة على لسان رجل أمن في مدينة اللاذقية يخدم فترته الإلزامية في فرع المخابرات، منصتا على اتصالات الناس، لنقل إنه يتجسس لدواعي إمنية على أناس محددين وأحياناً عشوائياً، هذه الخدمة التي تجعل حميمية حياة الناس تحت الاستباحة، كما تجعل حياتهم تحت الخطر، هذا في دولة القمع السوري، ونحن في مطلع الألفية الثانية زمن السرد الروائي؛ أن تحصل زلة لسان ضد النظام، أو تمر معلومة مشبوهة عن خطر محتمل على النظام، حتى يدخل المتنصت عليه في عالم الاعتقال والتحقيق والسجن والموت أحياناً. المهم هذا المجند في المخابرات وهو من اللاذقية نفسها، ومن طائفة النظام، علوي، يتعامل مع مسؤوليته بكل اهتمام لدرجة الهوس، ويستمر كل الوقت يتابع ويدقق ويحول المعلومات إلى تقارير يرفعها مرفقة بالتسجيلات إلى رؤسائه. كما أن هناك تقنية أخرى في الرواية وهي الانتقال العشوائي في تتبع المُتنصت عليهم، في مسار الرواية كاملاً. نحن أمام مقاطع متفرقة تتابع حياة أشخاص الرواية، بعشوائية في التتبع الزمني مع تنوع في الشخصيات، وبهذا الشكل يصبح القارئ كاتباً آخر للرواية حيث سيرتب الحدث الروائي كاملاً في ذهنه عند إنجازها. هل يتعب ذلك القارئ؟ لا أعتقد، فالنص مكتوب بتقنية جعلت هذه الميزة تزيد فرادته وجماليته. وجعلتنا مثل رجل الأمن ندخل لعبة التجسس على حميمية حياة الآخرين، بما فيها من غواية ومتعة وتأنيب ضمير.
الرواية هي هذه المتابعات التي يكتبها رجل الأمن المتنصت، وهو الراوي، وبهذا الشكل تختفي الكاتبة روزا عن النص بالمطلق.
تبدأ متابعات التنصت من مهيار السالمي، ونحن نجمع المتبعثر في حالته وغيره في الرواية بحيث نقدم حصيلة كل حكاية ومتابعة. مهيار السالمي يعيش مع والدته وهو وحيدها، والدته هالة المشلولة منذ سنوات، كانت قد وقعت في المطبخ وشلت، لا يعرف مهيار والده سالم، فقد مات قتلاً بالخطأ أو بشكل متعمد قبل ولادته، حيث كان جنيناً في رحم أمه، كان معارضاً يسارياً للنظام السوري، كان في رحلة صيد، أعيد لها ميتاً وقد اخترقت رصاصة رأسه وجوفته، حيث كان في رحلة صيد، أخبروها أنه أصاب نفسه بالخطأ، كان ذلك في الثمانينيات من القرن العشرين، حيث الصراع بين النظام والجماعات الإسلامية التي كان بعضها مسلحاً، وكذلك المعارضة الديمقراطية على أشده، المعارضة التي كان والده ينتمي إليها. أمه هالة تعتقد أن النظام من قتله وأنهاه كمعارض. مهيار يعيش مع أمه المشلولة يقوم على خدمتها في كل شيء، يطعمها ويسقيها ويحمّمها ويضعها على كرسي متحرك ويجول بها. ينقلها إلى سريرها عند النوم، يتابع كل شؤونها، هو لا يتحرج معها من شيء، يخدمها بكل حب وهي تراها ملاكها الحارس كل الوقت، الأم هالة ومع الزمن تبدأ في التعمق عبر ابنها مهيار في العقائد الشرقية الهندية، تطل على التاوية ودين الحب، وأولوية الروح على حساب الجسد المادي، وأن الروح خالدة تنتقل من جسد إلى جسد، الجسد فان، وهناك دائماً أجساد جديدة تعود إليها الارواح. كان هذا الاعتقاد سبباً لتحرر هالة من معاناة شللها، وأن الأولوية لروحها، وأنها تنتظر أن تنتقل إلى جسد آخر بعد فناء جسدها هذا، تنتظر موتها وتوده، تعيش كمتصوف ينتظر لحظة إشراقه بلقائه بذات الخالق، وهي تنتظر الالتحاق بروح الكون قبل عودتها بجسد آخر، لذلك كان موتها عيداً عندها، ماتت بعد شلل استمر أكثر من خمسة عشر عاماً، أوصت أن تحرق جثتها وتنثر في البحر، لكن ذلك لم يتحقق، أن مهيار أمام منظومة مجتمعية ودينية تمنعه من ذلك، عماته وأقرباؤه وقفوا ضده، دفنت في مقبرة ومنعت رغبتها من التحقق. مهيار كان يعيش حياة أقرب للتبتل تجاه النساء، عشرته الممتدة إلى سنوات مع جسد أمه بحيادية تامه، جعل الدافع الجنسي عنده شبه غائب أو في حالة ثبات، كان يفرغ معاناته في محترفه عبر الرسم ولطخ الألوان حيث يقضي معظم وقته هناك. كل ذلك كان حتى تعرف على صبا عبد الرحمن وأحبا بعضهما.
صبا عبد الرحمن من الساحل السوري أيضاً ومن الطائفة العلوية، والدها ضابط كبير في الجيش، حضوره في البيت قاس جداً، أمها مجرد كائن صامت مظلوم يلبي كل الحاجات، عقلية التسليم والقبول وإحالة كل مآسي حياتها على السحر من قبل الآخرين، وتتوج حياتها دوما بمزيد من الضرب من زوجها والإساءة لها هذه المسكينة المغلوب على أمرها. لدى صبا أخت تكبرها: ديالا تزوجت باكرا غادرت جحيم بيت اهلها، تعاني من سمنتها الشديدة، ومن افراطها في الطعام، كان الطعام ملجأها يوما ما مما تعاني في بيت اهلها ومن ثم زوجها، الذي يعاملها بتجاهل، لا يعاشرها جنسياً، يستعيض عنها بعلاقاته النسائية، ويذلها دوما بسمنتها، فكان الطعام هو العلاج ومزيداً من السمنة والتنكر لكل من يحيطها رامية عليهم سوء ما تعيش فإنهم أساس كل ما تعاني. صبا دخلت عالم المراهقة والشباب من بابه الواسع، انفتحت جنسيا على كل من تعرفت عليه، لم تكن تؤمن بما يسمى الحب، لها فلسفتها الخاصة عن أن الجنس هو الحقيقة الوحيدة في الحياة، وأنها بمزيد من الجنس ومع أكثر عدد من الرجال هو أفضل ما في الحياة. كانت قد مرت بعدة تجارب زواج كان آخرها مع عيسى، عيسى الذي ضربها وأساء لها وتركته هاربة وقررت ألا تتزوج ثانية وان كل الرجال لها متى ارادت وكيفما تريد. كان والدها ظالماً، علم بطلاقها، قرر تزويجها من ضابط صغير تحت إمرته، لكن المحاولة فشلت بعد لقاءات عدة بين صبا والضابط الذي أرادها عبدة جديدة من ممتلكاته. وهكذا دخلت صبا في مشوار العشرة الجنسية المنفتحة مع كل شاب تلتقي به وترغبه. لكن ذلك لم يكن يجعلها مستقرة نفسيا، فقد سئمت هذا التعدد واصبحت تحس انها تخسر نفسها اول باول، لقد وجدت حياتها بلا معنى. وفي هذه المرحلة تقاطعت حياتها مع مهيار السالمي الذي كان قد مرّ على وفاة امه حوالي العامين، وأصبح أكثر تحرراً ويجد أنه أقرب لان يُحِب ويُحَب، تقربت منه صبا، استغربت تحملها ألا يحاول معها جنسياً رغم مرور وقت على علاقتهما، وجدت صبا في مهيار جاذباً مختلفاً رغم أن الجنس لم يغب عن نفسها، استمرت بالتقرب منه، لكن اكتشفت بمزيد من التقارب والتوادد والاحتكاك والاعتراف المتبادل بالحب أن مهيار شبه عاجز جنسياً. كان ذلك صدمة له ولها، تركته لفترة، واكتشفت أنها تحبه وأنها لا تستطيع الاستغناء عنه رغم مصابه الجنسي، استشارت طبيباً وعادت إليه واتفقا أن يتعايشا وأن تساعده لعله يستعيد طاقته الجنسية الغائبة أو النائمة. صبا ومهيار اكتشفا حباً يحاولان أن يعيشاه.
المتنصت رجل الأمن يتابع أيضاً حياة أيهم الصارم، صديق مهيار، أيهم شاب دخل الجامعة دارساً للطب، ليس من الطائفة العلوية، وليس منتسباً لحزب البعث حزب السلطة، لذلك كان طبيعياً أن يطرد من الجامعة، أيهم موهوب موسيقياً أيضاً. ذهب إلى ليبيا ليتابع دراسته بعدما طرد من الجامعة، وفي ليبيا لم ينجح أيضاً، دخل علاقات جنسية فجة هناك، شكلت في نفسه ندبة، عاد مجدداً إلى سورية، حاول الدخول في المعهد العالي للموسيقا. رحب به أحد أساتذة المعهد كموهبة واعدة، لكنه رفض أيضاً من الدخول إلى المعهد لأنه ليس حزبياً أو من طائفة النظام…
تابع المتنصت رجل الأمن حياة هاني عباس وأخته لميا. إنهما من الطائفة العلوية أيضاً، والدهما قتل في تفجيرات الثمانينيات أيام الصراع بين النظام والجماعات الإسلامية المسلحة، وماتت الأم بعد ذلك بفترة وجيزة، تبناهما عميهما، عاشا متباعدين، كانت عائلة العميّن في شجار دائم بسبب الزوجتين المتعاديتين، كبر هاني وكبر داخله حب خاص عميق لأخته لميا، اكتشف أن دوافعه الجنسية لا تتحرك تجاه أية فتاة سوى أخته، كان ذلك يعذبه كثيراً، لكن ذلك استحكم داخله، بحيث كان يفرغ حاجته الجنسية عبر خيالات محرمة مع أخته، التي لم تكن تدري بما يجول داخل نفس هاني، لقد عاش هاني على استدعاء أخته في استمناءاته الدائمة. كما كان يعاشر صديقه مانيكانات النساء الشمعيات في محله للملابس النسائية. أما لميا فقد دخلت حياة المراهقة والجنس عبر تجربة جنسية مع أحد الشبان الذي جامعها واختراقها جنسياً، تحت دعوى حقها الجنسي، وأنها حرة في التصرف في جسدها. لكن لميا لم تكن لتقبل ذلك، لأن عمها وزوجته يعملون على إيجاد زوج لها، لذلك ذهبت إلى الطبيب وأعادت رتق غشاء بكارتها مجدداً. وسرعان ما جاءها عريس مغترب من البرازيل، أحبها وخطبها، وعاد إلى بلده، واستدعاها إليه في البرازيل، كان ثرياً جداً. وصلت إليه بعد تعب وهناك تكشفت لها حقيقة واقع خطيبها الذي سيتزوجها. لقد كان على علاقة مثلية مع صديق له هناك. وأنه تزوج وخطب كثيراً هناك، وفشلت كلها بسبب هذه العلاقة، اعتقدت لميا أن العلاقة بين الصديقين بريئة وحميمية، دون خلفيات جنسية. جامع العريس زوجته لميا عدة مرات متباعدة، ومن خلال رصد زوجها وما توحي به أمه ومن حولها عن علاقته الجنسية المشبوهة مع صديقه. ومن خلال مشاهدتها المباشرة لجماع جنسي بينهما، جعلها تقرر الطلاق والعودة إلى سورية، فلا حياة لها هناك، لقد وجد زوجها حياته مع غيرها. عادت لميا، وكان أكثر الفرحين بعودتها أخاها هاني، الذي لم يكن قد تزوج أو خلق علاقات نسائية له، أو استعاض عن خيالاته المحرمة مع أخته لميا العائدة.
تنتهي الرواية عندما تنتهي خدمة رجل الأمن الالزامية، ومغادرته غرفة التنصت في فرع المخابرات، خرج ولكن ليس كما دخل، لقد غير تنصت وتجسس رجل الأمن في شخصيته الكثير، لم يعان ضميره من كونه يتجسس على خصوصيات الناس وقد يضرهم أمنياً بما يقدمه في تقارير لرؤسائه، لم يعان من ذلك، يعتقد أنه يخدم الوطن والنظام والطائفة. لكنه خرج وقد بدأ يتعلم تفهم حياة الناس واختلافها وتنوعها، وأن الحياة فيها الكثير ولكل مبرراته فيما يحصل عليه. ودّع مكان عمله، وترك جزء من نفسه هناك، قدم المعلومات لقيادته، غادر المبنى وهو لا يدري هل سينجح في حياته، أم أن ما عاشه لن يتركه يعيش بسلام.
في تحليل الرواية نقول:
أعترف أنني أمام إمكانيات فكرية ونفسية وعقلية للكاتبة تعني أنها متبحرة في موضوعاتها لدرجة تبهر القارئ المطلع، ناهيك بالقارئ العادي.
إن الرواية متميزة في تقنية الكتابة التي تجعل القارئ مشاركاً في إنضاج النص الروائي وإكماله.
كما أن الموضوع حساس جداً، إنه تجسس السلطة في سورية المستبدة القمعية على شعبها، على ما ينعكس على حياة هؤلاء الناس من مشاكل وتنكيل. السلطة الحاضرة بأبناء الطائفة المحظيين، بالضباط الحكام الفعليين، رغم أن حياتهم من الداخل فاشلة وعنيفة وتافهة. الآخر غير ابن السلطة مهمش ومبعد ومستلب من كل حقوقه. كل ذلك يدرك أنه قانون الحياة في سورية الاستبداد والقمع عبر عقود.
الرواية تطال موضوعات شائكة تتعلق بحقائق الوجود الإنساني، الحب، والجنس، والعقد النفسية والمجتمعية، تنير كل ذلك دون أن تعطي لنا حكم قيمة، إنها تقول لنا هذا هو الواقع، كطبيب مشخص للمرض، دون تدخلية قصدية مسبقة. لذلك تحركت الرواية في منطقة الممنوع التفكير به أو الممنوع التكلم عنه، الرواية تعلن أن المعرفة تنور كل موضوعات الحياة، تشرح عن وجودها، تفهم واقعها، تترك التفهم للقارئ، المهم أنها أرادت القول ان كل ما قرأناه موجود. وأن مجرد عدم معرفته أو تجاهله، لا يعني عدم وجوده وعدم تأثيره على الحياة. والحل أن ننطلق منه للتفكير بحياة أفضل مختلفة.
للرواية رسالة مضمرة تقول إن هذه الحياة ضمن دولة الاستبداد والقمع من السلطة ضد الشعب، وغياب تكافؤ الفرص، والمظلومية المستدامة على الشعب السوري، تعني مزيداً من الخراب النفسي والاجتماعي في سورية.
وإن أردنا ان نعرف المطلوب في الرواية نقول: إن الرواية انتصار لقيم الخير والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية المفتقدة في الرواية وفي الحياة في دولة الاستبداد والقمع السوري.
رواية ترصد الواقع السوري بشكل خاص و الواقع العربي عموما في التخلف والإستبداد الذي يعيش في وطننا العربي.