قراءة في رواية “الفتى المتيّم والمعلم”
- الكاتبة: إليف شافاق
- الترجمة: د. محمد درويش
- الناشر: دار الآداب
- ط1-ط2، ورقية 2015
إليف شافاق الكاتبة التركية المتميزة، قرأنا لها أغلب من رواياتها، تكتب بشمولية وعمق اجتماعي وتاريخي، وتضمّن كتاباتها رسائلها الخاصة حول كل شيء.
الفتى المتيم والمعلم، رواية من الحجم الكبير مليئة بالتاريخ، تغوص عميقاً في المشاعر الإنسانية لأبطالها، روايتها هذه تؤرخ حياة المعماري سنان، الذي عايش السلطان العثماني سليمان وبعض من السلاطين بعده.
سنان المعماري المعلم، الذي نرى بصمته حيثما توجهنا في تركيا خاصة في إسطنبول، قد يكون المعماري الأول الذي جادت به الإنسانية – قياساً إلى ظروفه – فعبر مئة عام استمر يعمل بها بمواظبة الرسول ودأب المصلح وتفاني الداعي، تبدأ الرواية مع “جهان” الطفل الذي فقد والده، ترك أمه التي لم تستطع أن تحميه في مواجهة زوجها الجديد، قرر أن يهرب بعيداً ليكبر ويمتلك أسباب القوة ويعود إلى بلاده في الهند لينتقم لنفسه ولأمه من زوجها الظالم.
يتسلل إلى سفينة على الشاطئ علم أنها متوجهة إلى اسطنبول عاصمة العالم، وعلم أن على متنها فيل أبيض صغير أرسل هدية من سلطان هذه البلاد إلى سلطان العالم العثماني سليمان.
على السفينة يكتشفه القبطان، الذي تريث قبل أن يرميه في البحر، طفل على متن سفينة في سفر طويل ماذا يفيد؟!. لكنه تركه لعله يحتاجه، تفاوض القبطان مع سائس الفيل القادم معه، كي يسرق له بعض المقتنيات الذهبية والجواهر والنفائس عندما يصل لقصر السلطان، لكنه لا يستجيب، فقتله القبطان وألقاه في البحر غذاء للأسماك.
عندها التفت للطفل جهان المرتعد خوفاً وطلب منه ذات الطلب فوافق، وتحول جهان ليكون السائس الجديد للفيل. واستمر في فترة السفر الطويل معتنياً بالفيل حتى صار صاحبه المعتمد، وحصلت بينهما إلفة.
وصل جهان والفيل الأبيض إلى اسطنبول ونقل للقصر.
ظهر غريباً وعجيباً بين عشرات الحيوانات، استغربوا صغر سن جهان لكنهم تقبلوه، كونه متفاهم مع الفيل.
في قصر السلطان موقع خاص للحيوانات، طار خبر مجيء الفيل الأبيض وانتظر أن يظهر السلطان أو زوجته الجبارة خرّم، أقوى سلطانة في تاريخ العائلة العثمانية، لكنه تفاجأ بحضور “ميرماه” طفلة مع مربيتها.
إنها ابنة السلطان سليمان وخرم الوحيدة والمدللة.
من اللحظة الأولى لرؤية جهان لها أحس أن قلبه انفتح ودخلت به ولم تخرج منه حتى موته رغم أنه تجاوز مئة سنة.
في القصر بدأ يطّلع رويداً رويداً على أحواله الداخلية وأسراره، السلطان سليمان ينتقل من معركة لمعركة ومن مجد لآخر، وخرّم تسيطر على كل شيء في القصر وتعرف كل صغيرة وكبيرة، والطفلة ميرماه تحضر بأوقات مختلفة لمشاهدة الفيل، ومع الزمن وجدت في جهان شخصاً تتبادل معه أحاديث عنه وعن بلاده وأهله، رغم تحذير المربية لها، لكنها كانت تتجاوز كل القيود.
علم أنه أحبها، لكنه أكد لنفسه أنه حب مستحيل التحقق، فهو سائس فيل وهي ابنة السلطان سليمان وخرّم. مع ذلك كان يكتفي بحبه لها وحضورها المتقطع، وينتظر حضورها كانتظار الأرض العطشى للماء.
حاول أن يسرق بعض الأشياء الثمينة حتى يعطيها للقبطان حين يأتي، نجح بالقليل، إنه مسكون رعباً أن يقتله إن لم ينفذ اتفاقه معه.
في القصر يحضر المعماري سنان الذي كان رئيس معماريي المملكة، كان ينتقل من عمل منجز لعمل آخر بدأب كبير، وكأنه يرغب ألا يضيع أي وقت دون إنجاز معماري جديد.
سنان الرجل الرسالي مؤمن أنه مؤتمن على أن يقدم أفضل ما يطلب منه في مجال المعمار، لديه قناعة أن البشر زائلون جيل وراء جيل، أما الآثار المعمارية فإنها باقية للدهر، قصور، مساجد، قنوات ري، كل شيء يجعل اسطنبول جوهرة العالم، لم يكن يهتم لحسد الآخرين له، ولم يكن يفكر أن يحصل على مكتسبات ما، إحساسه بالرضا عن نفسه كان يكفيه، عندما ينجز ما يُطلب منه بشكل رائع.
بنى جامع السلطان سليمان، وأصلح آيا صوفيا، أعاد تأهيل شبكة إمداد الماء للناس في إسطنبول، أنجز حوالي 400 منشأة عظيمة، ومع كل سلطان جديد سيكون له صرح جديد، سيبني جامع السليمية في أدرنة تلبية لرغبة السلطان سليم.
جهان كان مسكوناً بالمخططات وتصورات البيوت والقصور والمساجد، وفي لحظة ما سيلتقي سنان مع جهان، ويرى سنان بعض رسوم جهان التي أعجبته وأدى ذلك لضمّه لخاصة تلامذته وكان رابعهم، يوسف الأبكم وداؤود، كلهم من مكسوري الخاطر، مصابون في صميم وجدانهم، أغلب أهلهم قتل بالحروب، وهم أخذوا هذه الحظوة لأنهم متميزون بمجال المعمار، يعلمهم سنان ويعتمد عليهم في تنفيذ كثير من أعماله الإنشائية، يسعد جهان، فقد انتقل من مروض فيل إلى تلميذ مقرب لسنان، وحزن لأن بعده عن الفيل يعني بعده عن ميرماه.
استفادوا من الفيل في مجال النقل وفي الحروب.
في كثير من الحروب كان وجود سنان وتلامذته والفيل سبباً لنصر أكيد، حيث بنوا جسراً وبعد انتهاء المعركة فكوه، كل ذلك وسنان يزداد حظوة وكذلك هم، ولم يسلموا تماماً من الوشايات، التي كادت تودي بهم لولا حكمة سنان وقدرته على التصرف.
سيكبر جهان وتكبر ميرماه وتتزوج وسيأتي أولادها لاحقاً ليشاهدوا الفيل الذي أحبته أمهم.
يتدرج التلاميذ في التعلم، ويرسل سنان داؤود وجهان إلى روما للقاء معمارها الأول هناك، يرسمون وينقلون كل ما لاحظوه، لكنهم سُرقوا في طريق العودة كأن شيئا لم يكن، سيرصد سنان وجهان، هناك طرف ما يريد تخريب أعمالهم، وإيقاع الضرر بهم وبأعمالهم، بعضها أودى بحياة بعض العمال، وكاد يموت سنان مرة لولا أن أنقذه تلميذه الأبكم يوسف، يوسف ليس أبكماً، وهو أنثى محظية عند سنان وتلميذة ماهرة ادعت البكم وتزيت بزي الرجال لعشرات السنين حتى تعمل ما تحب.
عندما كُشفت عادت إلى خبائها في بيت سنان، سيتعرف جهان على الغجر ويكون صاحبهم، هم الذين أنقذوه من الموت المحقق عدة مرات، سيكبر الفيل وكان قد زوّج لفيلة عند الغجر وتلد الفيلة فيلاً صغيراً جميلاً.
يهرم الفيل الذي حضر معه من الهند، ومن ثم يموت، فُجع جهان، فأحد أبته غادره.
أعطي للسفير الفرنسي الذي أخذه وشرّحه وأنتج رسومات ومخططات عن جوف هذا الكائن العظيم، وماتت ميرماه مبكراً، وقبل وفاتها أحضرته إليها، واعترفت له بحبها وقبلته، وبقي بجانبها تلك الليلة حتى ماتت، وغادرها وقد أحس أنه افتقد حبيباً آخر.
وبعد فترة وبعد عمر مديد حوالي المئة سنة، يمرض سنان ويحضر تلاميذه ويقول لهم إنه ترك وصية يحدد فيها من سيخلفه رئيساً للمعماريين الملكيين، وكل يرى بنفسه الكفاءة.
وبعد وفاته يعلن أن وريثه داؤود، تقبلها جهان على مضض وأراد أن يعرف ماذا ترك له في وصيته، يساعد جهان المحظية المتخفية في اسم يوسف للعودة إلى بلادها إيطاليا، حاولت أخذه معها وأخبرته أن هناك لهم عالماً واسعاً ويعملون، قال كيف أترك قبر سنان وميرماه وناب الفيل الذي دفنه في الأرض وأعلنه ولياً صالحا للتبرك.
استدعاه داؤود وطلب منه أن يكون رئيس عماله، وعندما زاره ارتاب من وجود كتب سنان عنده وكذلك بعض أدواته، وقرر أن يبحث ليعرف ما القصة، وهكذا اكتشف أن الوصية كانت بأن يكون هو الوريث، وأن اتفاقاً حصل بين داؤود ورئيس خصيان القصر ومربية ميرماه، قرروا إزاحته، حيث أُخذ لأحد بيوت الدعارة، وتم اصطناع خلاف مع إحداهن ورماها أرضاً، قيل له إنه قتلها، تحول لمطارد، العاهرة لم تمت.
اكتشف جهان أن داؤود حاقد على معلمه سنان وعلى السلطنة، وأنه كان يعمل بدأب من الداخل حتى يخرّب أي شيء وكل شيء، انتقاماً لأهله الذين قتلوا جميعاً في إحدى فتوحات السلطان سليمان، هو من سرق مخطوطات روما التي عملها مع جهان وأتلفها، وهو الذي كان وراء بعض الحوادث المؤسفة في العمل، هو من خطط لإبعاد سنان وتوريطه بقصة قتل، فإما أن يهرب أو يُقتل، وساعدته أحياناً مربية ميرماه، التي لبت مطلب سيدتها بأن تنغص على أبيها الذي لم يعد يراها ولم يعد يأخذها معه، وانتقاماً من أمها التي ضحت بكل شيء من أجل مجدها الشخصي.
والدها الذي قتل أكثر من صدر أعظم وبعض أبنائه، ثم مات في إحدى معاركه فاتحاً في أوربا، حيث أُعيد على متن الفيل إلى إسطنبول، ذهل جهان حين أدرك أن لا حقيقة هناك.
وماذا عن حب ميرماه له؟ لقد اعترفت وهي على فراش الموت، وطالبته ألا يصدق أي شيء يقال له.
دخل الوسواس لنفسه، لكن ميرماه استوطنت عقله وقلبه ولن تغادر أبداً، تأكد جهان أن لا مستقبل له في اسطنبول وحاول داؤود قتله، أنقذه الغجر مجدداً، وقرر الرحيل، تنقل بين بلدان كثيرة وعمل معمارياً فيها، وكان آخرها عندما علم أن سلطاناً هندياً يريد بناء قصر لا مثيل له لتخليد زوجته التي توفيت.
ذهب إلى هناك وكان دوره أساسياً في بناء تاج محل التحفة المعمارية الخالدة، وهناك تزوج وعمره فوق المئة وأنجب طفلاً، واستقر هناك حتى وفاته، حيث غادر العالم أحد أهم المهندسين المعماريين عبر التاريخ.
ما أحوجنا لهذه النماذج.. الحياة رسالة علينا أن نؤديها.