قراءة أدبية في قصة العجوز والبحر
قراءة أدبية في قصة (العجوز والبحر)
حين تكون السمكة أكبر من القارب..
القسم الأول: ملخص القصة
(العجوز والبحر) رواية للروائي الأمريكي أرنِست هيمنجواي الحائز جائزة نوبل للآداب 1954، ونشرت هذه الرواية عام 1952. وفيها خلطة سحرية من الأدب، من الملحمة والسرد والشعر والدراما، بطل القصة هو الصياد العجوز، وثمة بطل ثان هو السمكة.
تدور حوادث القصة حول صيّاد سمك عجوز، اسمه “سانتياغو”، لم يظفر بصيدٍ وافٍ طوال أربعة وثمانين يوماً، حتى إن أهل الغلام الذي كان يعمل معه أجبروه على ترك صحبة العجوز تطيّراً به، وعلى العمل عند غيره. ومن بعد طول حرمان، تفاءل العجوز بأن الحظَّ سيحالفه، واستيقظ فجر اليوم الخامس والثمانين، وكلّه إيمان بأنه سيحظى بصيد ثمين ينسيه مرارة الحرمان الطويل. فأبحر عند الفجر وحده خارجاً بمركبه، ومضى في البحر إلى مكان أبعد من المعتاد، وأوغل في البحر متجاوزاً ما قدّره لنفسه، وأخذ يراقب اهتزازات العصي، وينشد اصطياد سمكة كبيرة بحجم حرمانه، وصار يتخيل أن ذلك الصيد سيعود عليه بربح وافر، وسيعيد له اعتباره ومكانته المفقودة بين الصيادين.
تحققت أمنية سانتياغو، إذ علقت بخطاف صنارته سمكة ضخمة من نوع المرلين الثمين، كانت السمكة كبيرة جداً، بل كانت أكبر من المركب، وصارت تقاوم الخطاف، وترفض الاستسلام والانقياد، حتى إنها صارت تجرّ المركب وراءها وتمضي، لكن سانتياغو راهن على أنها ستتعب وتنقاد له. ظلت السمكة صامدة ساعات طويلة، ثم صعدت إلى سطح الماء، محاولة التخلص من الخطاف غير مرة، ولكنها كانت تفشل في كل مرة، وتعود للمحاولة ولا تستسلم، وسانتياغو يقاوم ويصبر ويتحايل، ويزداد إصراراً على كسب المعركة، ويراهن على استسلام السمكة أخيراً.
وبعد يومين من الصبر والألم والمقاومة المستمرة من كلا الطرفين، ثقلت حركة السمكة، وبدا أنها تعبتْ، فحاول سانتياغو جذبها صوب المركب، ولكنها لم تنقد له كل الانقياد، فطعنها برمحه حتى ماتت، وسال دمها في الماء، ثم جذبها وربطها إلى حافة المركب، وعزم على العودة إلى الشاطئ، وهو يشعر بالراحة والحبور. لكن رائحة دم السمكة ولونه جذبا سمكة قرش كبيرة، لحقت المركب تريد السمكة، فاندفع سانتياغو يحاول إبعاد القرش وتحييده، وظل القرش يناور حتى نهش ذيل السمكة، وهمّ بأن يقضم ما بعد الذيل، فتلقاه سانتياغو بالرمح في رأسه، فقتله وسال دمه بقعة كبيرة في الماء. تألم سانتياغو لما حدث، لقد أفسد القرش جمال السمكة وأزال جلالها، وذهب بجزء كبير من قيمتها. فضلاً على أنه فقد رمحه حين طعن به القرش، وبالرغم من ذلك، شعر سانتياغو بالأسى، ولكنه سرعان ما عاد يفكر في العودة بما تبقى من السمكة، وهو لحم وافر يكفي كثيراً من الناس. لم تمر ساعة على مسيل دماء القرش، حتى هاجم قرشان آخران المركب، فحاول سانتياغو إبعادهما بكل طاقته، ليُنقذ ما لم يصل إليه القرش الأول، وظل يعالجهما ويقاومهما، ولكن القرشين تمكنا من أكل ربع لحم السمكة، وتمكن العجوز من قتل أحدهما وتحييد الآخر، وسال مزيد من الدماء في الماء، ثم هاجم قرش رابع السمكة، ثم قرشان، ولم تغب شمس اليوم الثالث إلا وقد ذهب نصفُ السمكة. ومع حلول الظلام جاءت أعداد كبيرة من القروش تريد ما بقي من السمكة، وراح سانتياغو يخوض معركته بصبر وجلد عظيمين، وظل يقاوم ويضرب القروش بالهراوة حتى طاحت من يده، ثم اضطر إلى نزع ذراع الدفة، وصار يضرب به القروش التي تنهش سمكته الحبيبة، وظل يضرب ويضرب ويتصدى حتى أتت القروش على السمكة كلّها، وحين وصل مركب العجوز إلى الشاطئ واستقرّ به؛ لم يبق من السمكة سوى هيكلها العظمي مشدوداً إلى جنب القارب.
القسم الثاني: قراءة القصة
في القصة التي تصور رحلة العجوز نقطتا تحوّل رئيستين: الأولى بدأت عندما علقت السمكة بخطاف العجوز، وبدأت معها المعركة النبيلة، معركة الاستحقاق، وفي أثنائها عاش العجوز حالات الاستبشار والأمل والفرح والاعتداد بالنفس، أما نقطة التحول الثانية فكانت عندما اقترب القرش الأول، إذ بدأت المعركة الدنيئة، معركة الانتهاز، وفي أثنائها عاش العجوز مشاعر الأسف والندم والغضب، وحالات العجز والانكسار. وتصور القصة كثيراً من مفردات الحياة ودقائقها، بل إنها تكاد تكون صورة مصغرة عن الحياة كلها، بكل ما فيها، وقد بدت الحياة -عند الكاتب- دائرةً مغلقةً، إذ بدأ العجوز رحلته من نقطة الخيبة والانكسار، ثم انطلق يحدوه الأمل، ثم دخل غمار البحر، وعاش ما عاش من مشاعر إنسانية: الحبّ، الإعجاب، الأمل، التفاؤل، اليأس، الأسى؛ كما عاش تجارب إنسانية: المواجهة، الإصرار، التعب، الصبر، الفقد، التحسر. ثم عاد العجوز إلى نقطة البداية: الخيبة والانكسار. ومن جانب آخر، انكسرت هذه الدائرة المغلقة، لتفتح دائرة جديدة لحياة جديدة، ليس للعجوز حظ فيها، حيث بدأ العجوز رحلته من مفارقة الغلام له، ثم انتهت بملازمة الغلام للشيخ، وفي كل ذلك رسالات فلسفية عميقة، توحي بأن الحياة دائرة مغلقة، وليس للإنسان فيها سوى تحديد مركزها ونصف قطرها.
المشاعر الإنسانية:
لا تكاد تجد في القصة شعوراً إنسانياً لم يعشه العجوز، حاضراً أو خاطراً، حتى الحب والشوق والحنين، وقد برع الكاتب في تصوير تلك المشاعر وفي مزجها وتداخلها.
- الأمل: انطلق العجوز إلى مسافة بعيدة في عرض البحر، يحدوه الأمل بالظفر بصيد عظيم يعود عليه بخير وافر، ويعيد له مكانته بين أقرانه. ولولا الأمل لما قام برحلته: “كل يوم هو يوم جديد، يحمل أملاً جديداً”، ولم يفارقه الأمل طوال رحلته حتى أثناء مقاومة السمكة: “لن تستطيعي جرّ المركب إلى الأبد”، 34، ولكن ذلك الأمل كان يتضاءل شيئاً فشيئاً، مع بدء معركة القروش، حتى تلاشى عند الشاطئ.
- التفاؤل: كان العجوز يستبشر منذ عشية رحلته: “هذا يومي الخامس والثمانون، ولا بدّ اليوم من صيد حسن”، “خمسة وثمانون، لعل هذا الرقم يكون مجلبة للحظ”، “هذا التيار يبشر بغد طيب” 16، “إذا قفزت السمكة فسيكون بالإمكان قتلُها”، “كانت ليلتي طيبة جدّاً، وإني اليوم لمليء بالثقة”، وظل يستبشر حتى لحظة قدوم القرش الأول الذي نهش ذيل السمكة، وأسال دمَها، وبدأ المعركة الدنيئة.
- الإعجاب بالسمكة: منذ لحظة علقت السمكة بالخطاف، استشعر سانتياغو أنه حاز صيداً عظيماً، وبدأ يخاطب السمكة، ثم استمرت مخاطبته السمكة حتى ساعة العودة، وفي كل كلماته كان يُظهر إعجابه الشديد بتلك السمكةِ؛ جمالها، قوتها، صبرها، عنادها: “كمْ من أفواه الناس سيأكل من لحم هذه السمكة، ولكن هل هذه الأفواه أهلٌ لأكلها؟ لا طبعاً. إن هذه السمكة بعظمتها وبراعة تصرفها لا تجد من هو أهل لأكل لحمها” 70، وقد يزداد ذلك الإعجاب حتى يجوز تخوم الحب، إذ يقول العجوز مناجياً نفسه: “ما أضأل الإنسان، إذا قِيس بالطيور الجارحة والوحوش الضارية، ومع هذا أؤثر أن أكون ذلك الحيوان الرابض في جوف الماء” 64.
- الأسف للمصير: بعد أن نهش القرش الأول ذيل السمكة، فسدت فرحة العجوز، وخامرته مشاعر الأسف، والندم، والحزن: “أيها النصف سمكة، يا من كنتِ سمكةً كاملةً جليلةً، إني آسفٌ، إذ مضيتُ بعيداً في البحر، لقد تدمّر كلانا، ولكننا قتلنا قروشاً عديدة أنتِ وأنا…”، وظهرت مشاعر الندم عند العجوز في غير موقف، لأنه أوغل في الرحلة، ولأنه لم يجلب ما يكفي من زاد، وتجلى الندم بعد أن توالت القروش: “إني آسف، لأني قتلتُ السمكة”، (130)، ولكنه كان يواسي نفسه ويبرر موقفه ليخفف حدة الألم الذي أحاط به، وأحياناً كان يعترف بما تسرّ نفسُه، وبنيّاته المضمرة: “إنك لم تقتل السمكة من أجل أن تبيعها غذاء للناس وتعيش بثمنها، إنما قتلتَها إرضاءً لكبريائك واعتداداً بنفسك”.
- التحسر: تحسّر العجوز كثيراً في أثناء رحلته، تحسّر على عدم وجود الغلام معه: “ليت الغلام كان معي، إن سمكة تقطرني وأنا المقطور” 42، وتحسر على نهش القروش السمكة: “كانت سمكةً قمينة بأن يعيش المرء من ثمنها، طوال الشتاء”. وتحسر على عدم إعداد العدة الكافية: “كان عليك أن تجيء معك بأشياء كثيرة، أيها العجوز، ولكنك لم تفعل” 102.
- الانكسار: الحلم الكبير الذي كاد يتحقق ويكون حقيقة، تلاشى فجأة، والقلب الذي كان يخفق فرحاً وبشرى، انكسر: “ولم يعد به شوقٌ إلى أن يتطلع إلى السمكة وهي غارقة في دمها”، “لقد فات أوان كل شيء، وأصبح كل همّه أن يصل إلى بيته بأمان”.
التجارب الإنسانية:
عاش العجوز كثيراً من التجارب الإنسانية، منها ما قد عاشه من قبل، ومنها ما يعيشه أول مرة، وقدّم الكاتب تلك التجارب بصور بديعة، تركت أسئلة كثيرة في ذهن القارئ، ليفيد من تلك التجارب العظيمة.
- الصبر: صبر العجوز صبراً أسطورياً على ما واجه من عقبات ومشقات، فتحمّل ظروف الطبيعة: البرد، الحرّ، الجوع، الضعف، النعاس، ألم الجروح، كما راح العجوز يراقب اهتزاز العصيّ، بصبر نبي، حتى علقت السمكة، ثم صبر عليها وهي تقاوم وتسبح ساعات بثبات: “أيتها السمكة، إنك تحسّين بالألم الآن، وأنا أيضاً” (54)، “لقد انصرم نصف يوم وليلة كاملة، وهذا يوم آخر، مرت جميعاً دون أن يغمض لكَ جفن” 72، وكان يناجي نفسه: “يجب أن تصبر أيها العجوز” 81، “قد تطلع السمكة قبل الغروب، وإذا لم تفعل فلعلّها تطلع مع القمر، فإذا لم تفعل فلعلّها تطلع مع شروق الشمس”، وكان يُعجب بصبر السمكة حتى إنه شبّه صبره الشديد بصبرها: “إن لي صبراً كصبر هذي السمكة”.
- الإصرار: كان العجوز يعيش صراعات كثيرة، ومقابل كل مكسب، كانت هناك خسارة بحجمه أو أكبر، “قتلت القرش الأول، ولكن ذهب الرمح”، “أيتها السمكة لن تستطيعي جرّ المركب إلى الأبد”، “أيتها السمكة سأبقى معك حتى أموت” 51. وتحمّل الجوع والبرد والتعب والألم، وحين أصيبت يده كان يخاطبها بإكراه: “تقلّصي ما شئت، فهذا لن يعفيك من العمل” 55، أو يخاطبها بتودد: “اصبري يا يدي، إني أصنعُ كل هذا من أجلك”. وكأنه يخاطب السمكة باحترام: “أيتها السمكة، إني أحبّك وأحترمك كثيراً، ولكني سأصرعك حتى الموت”(52)، وكان يتلهف لرؤيتها: “أريد أن أراها وأحسّها وألمسها، إنها ثروتي” 88. وبعد أن قتل العجوز القرشَ الأول وفقد حَربته؛ ربط السكين بقيد المجداف، ولم يستسلم، وحين انكسر، صار يضرب بالهراوة، وأصر على المقاومة حتى النهاية.
- الاضطرار: ثمة ملمح مهم في رحلة العجوز، أو ربما في حياته كلها، حيث لم يمارس العجوز الاختيار قط، لم يختر أي حدثٍ في قصته، كان مضطراً إلى الابتعاد والإيغال في البحر، لأنه لم يحظ بصيد منذ أربعة وثمانين يوماً، وكان مضطراً إلى الصبر، لأنه لا يريد العودة خائباً، ومضطراً إلى المقاومة، لأنه لا يريد أن يترك حقه (السمكة) لغيره، ومضطراً إلى طعن السمكة، لإيقاف حركتها والاستراحة من تعبه: “لم يكن هناك بدّ من قتلها، بهذه الوسيلة”، وكان مضطراً إلى مواجهة القرش الأول، لأنه يريد أن يسلبه حقه وجهده وتعبه (السمكة)، وكان مضطراً إلى مقاومة القروش الأخرى، لأنها لن تترك له شيئاً، ومضطراً إلى الاستسلام والعودة، لأنه استنفد كل طاقته وخياراته.
- الإيغال: لم يكتف العجوز بالحدود التي وقف عندها الصيادون، بل أوغل حتى لم يعد يرى الشاطئ، وقد عرف أنه أوغل في الحلم وفي البعد وفي معاندة الحظ، ومع ذلك لم يتراجع، وكانت رغبته في الظفر أكبر من خوفه من الخسارة: “لقد تحديتَ الحظ -أيها العجوز- بإيغالك بعيداً في البحر” 107. وعاش تجربة فريدة في عرض البحر لم يألفها من قبل، حيث عاش العجز والوحدة والمواجهة غير المتكافئة مع القروش، وفعل كل في كان يمكن فعله.
- الوحدة: شعر العجوز مرات عديدة بالوحدة ومرارتها، وشعر بالعجز والتعب وبقيمة الغلام، وتمنى لو أنه معه، وظل يردد تلك الأمنية مرات: “كم وددت أن يكون الغلام معي”، وكأنه يقول: في معركة الحياة لا يمكنك أن تكون وحدك، لا بد من أحد يكون معك، على الأقلّ ليسمعك حين تشكو. العجوز وحده، والسمكة وحدها، والقروش عديدة.. “إنك وحدك، أيها العجوز، وليس أمامك إلا أن تعمل إلى آخر حبلٍ يبقى معك” (49).
- النجاح: عاش العجوز تجربة النجاح والظفر، وشعر بقيمة قوة الإرادة، وفرح بصيده الثمين: “كانت سمكة كافية لأن يعيش المرء طوال الشتاء، بما تدره من ربح”، ولكن نجاحه لم يدم، وما إن انتهت المعركة النبيلة حتى بدأت معركة لم تكن في الحسبان، وعرف العجوز ذلك، وصار يفكر في أسباب عدم دوام النجاح: عدم وجود الغلام، وعدم إعداد العدة: “كيف للمرء أن ينازل القروش تحت جنح الظلام بدون أيّ سلاح”، “يجب أن يكون لديك رمح قاتل قوي”.
القسم الثالث: فلسفة القصة وشخصياتها
فلسفة القصة: رحلة العجوز في البحر هي صورة مصغّرة عن رحلة حياته كلها، بكل ما فيها من ثنائيات ومتناقضات، فيها الفرح والحزن، الفوز والفشل، القدرة والعجز، الهدوء والاضطراب، الأمل والخيبة، الحظ والجهد، وفيها صراع مفتوح على كل الجهات، بين الموت والبقاء، وبين الرغبة والخشية، وبين النبالة والخِسّة: “لقد قتلتُ القرش دفاعاً عن النفس، وقد أحسنتُ في قتله، ليس في الدنيا إلا قاتلٌ أو مقتولٌ، إن الصيدَ يقتُلني، كما أنه مصدر حياتي” 98، وكان يُعجب بمقاومة السمكة ويعترف بحقها في البقاء: “إنك تقتليني أيتها السمكة، وهذا حق لك”.
خاض العجوز في رحلته معركتين: الأولى مخطط لها، حيث استعدَّ لها قبل أن تبدأ، فنجح فيها وظفر وبلغ غايته بعد طول صبر وجهد. أما الثانية فهي طارئة، ولم تكن في الحسبان، فخسر فيها ما كسبه في الأولى. والمفارقة المهمة أن الكاتب جعل المعركة الأولى نبيلةً، إذ كانت تبعث في نفس العجوز المشاعر الإيجابية، أما المعركة الأخرى، فقد كانت معركةً دنيئةً، ويكفي أن يكون أحد طرفيها دنيئاً، وكانت تبعث في نفس العجوز المشاعر السلبية. ويصوّر الكاتب الحياةَ -بحسب هذه الرؤية- معركة طويلة ذات فصول، وبإمكان الإنسان أن يختار معركته وموقعه، وكأنه يقول: لكي تحظى بحقك غير منقوص، تجنب ما سيحدث بعد إتمام نجاحك، وتجنب كل ما يمكن أن يُدخلك في معركة خسيسة، وعليك أن تعلم أن هناك من يتربص بك، ولا عمل له سوى أن يسلبك فوزك، ويأكل جهدك، ويسرق قُوْتك.
التوحد مع السمكة: شعر العجوز أنه يشبه السمكة، وأنها تشبهه، حتى إنه توحّد فيها: “إنني لم أرَ في حياتي سمكة في مثل ضخامتك ولا جمالك ولا هدوئك ولا نبلك، أيتها الشقيقة، تعالي، تعالي واقتُليني، لم أعد أبالي أيّنا يصرعُ الآخر”، وكان يخاطبها بحبٍّ قبل قتلها، ويعجب بإصرارها وصبرها.
وجد العجوز في الرحلة حيزاً ليتفكّر في الحياة وفي الكائنات، فكان يتأمل ويتفكر في البحر والأسماك، وفي السماء والطيور: “إن حياة الطير أقسى من حياة البشر، فيما عدا الطيور السارقة والطيور الجارحة، لماذا خُلقت هذه الطيور بهذه الرقة وهذا اللطف، وخُلق المحيط بهذه القسوة” 31، وخاطب الطائر الذي حط على حرف المركب: “خذ نصيبك من الراحة، أيها الطائر الصغير، ثم اذهب إلى موعدك مع القدر، كأي إنسان أو أي طائر أو أي سمكة” 53، وهذا يدلّ على تماهي العجوز مع البحر بكل ما فيه.
طرح الكاتب عشرات الأسئلة بطريقة غير مباشرة، وترك للمتلقي الإجابة عنها: لماذا انتهت معركة الحياة (المعركة النبيلة) بهزيمة الخصمَين كليهما (العجوز والسمكة) اللذين يقاومان من أجل البقاء؟! ما الذي جعل مصير هذا النضال العظيم الخسارةَ؟ أين الخطأ في هذه المغامرة؟ من المسؤول عن ذلك المصير: العجوز أم السمكة أم القروش؟ هل السبب أن العجوز أوغل في البحر، أم لأنه عاند الحظ، أم لأنه بالغ في الطلب، أم لأنه لم يتحل بالصبر حتى آخر لحظة، أم لأنه استخدم السلاح وأثار الدم، أم لأنه لم يُعِدّ العدّة كما ينبغي، أم لأنه كان وحدَه، أم لأنه لم يعرف قدر قوّته ولم يحسب العواقب؟!
شخصيات القصة
- العجوز والغلام
“من الآن؛ لن نخرج إلى الصيد إلا معاً، أنا وأنت”
تبدأ القصة بالعجوز سانتياغو والغلام مانولين، وتنتهي بهما. والعلاقة بينهما وثيقة جداً، ويمكن أن نصفها بالصداقة في أبهى صورها، على الرغم من فارق السن الكبير بينهما، فهما يأكلان معاً ويشربان ويتحدثان ويسهران ويقضيان معظم أوقاتهما معاً، ويهتمان ببعضهما. قبل الرحلة، اضطر الغلام إلى ترك العجوز، وكان يتأثر لمرأى العجوز بائساً، وينتهز الفرصة ليكون معه، لأنه معلمه الأول وصديقه الأقرب، وكان يعجب بالعجوز ويثق به: “هناك كثير من مهرة الصيادين، وهناك صيادون عظماء، أما أنت فنسيج وحدك”، ولا يُخفي الغلام مشاعر الحب والإعجاب بالعجوز، إذ يقول: “لا أزال أتمنى أن أتعلم منك أشياء كثيرة”. ولذلك عزم على أن يواجه الجميع، وأن يبقى مع العجوز بعد عودته إلى الأبد: “من الآن؛ لن نخرج إلى الصيد إلا معاً، أنا وأنت”. وكأن الكاتب يريد أن يجعل نهاية حياة العجوز بدايةً صحيحة للجيل الآخر (الغلام)، وبذلك يستمر الأمل في تطوير الحياة وجعلها أفضل وأجمل وأقل خسائر.
- العجوز والبحر:
“إن الرجال لا يضيعون في البحر”
العجوز والبحر هما أساس القصة، والبحر عنده المرأة والأُنس والسعادةَ والعطاء والصديق، بل هو حياة العجوز كلها، ولكن هذه الحياة آذنت بالانتهاء، وسلبته قوّته وقدرته، وكذلك سلبَه البحرُ الحظّ، وضنّ عليه بما كان يجود به من قبلُ: “أربعة وثمانون يوماً لم يجُد عليه البحر خلالها بشيء من الرزق” 11، ومن جانب آخر، كان هناك فرق بين نظرة العجوز إلى البحر ونظرة الشباب: “الصيادون الشباب ينظرون إلى البحر كرجل لا كامرأة، يتحدثون عنه كمنافس، وكمجرد مكان من الكون، وأحياناً كعدو وخصم؛ أما العجوز فكان يتخيّله دائماً أنثى، تنفح الحياةَ بالمنح العظيمة، أو تحتضن هذه المنح” 32.
- العجوز والسمكة
“لقد تدمّر كلانا، ولكننا قتلنا قروشاً عديدة أنتِ وأنا…”
علاقة العجوز بالسمكة علاقة مصير، لا بد لأحدهما أن يقضي على الآخر، ليبقى: “إن السمكة، على إثر غدري بها، لم تجد بدّاً من الاختيار، ولقد اختارت البقاء في الماء العميق القاتم، بعيداً عن الأحابيل والفخاخ ووسائل الغدر، أما أنا فقد اخترت أن أسير معها بعيداً عن جميع البشر، وها نحن الآن مصير كل منّا مرتبط بمصير الآخر، منذ الظهيرة، وليس هناك مَن يُعينني ولا من يُعينها”. وقضى العجوز معظم وقته يناجي السمكة، ويشعر بها، حتى إنه صار يحبّها ويرثي لمصيرها: “كم كنت أتمنى لو استطعتُ أن أطعِم هذه السمكة، إنها أختي، بيد أنه لا مناص من قتلها”.
- العجوز والقِرش
“لم يكن مجيء القرش صدفة” 92
القصة نموذج عن الحياة كلها: الحظ والجهاد والحب والحكمة والأمل والفشل والعجز والصبر والمواجهة، ولا شك في أن كل عمل أدبي يعكس رؤية مبدعه، والرواية تعكس نظرة همنغواي للحياة، فهي تُسلِّم بأن الحياة كلها سلسلة من المعارك المتتابعة، وأن هناك أعداءً جيدين وأعداء سيئين، وأن القوي هو من يستطيع مواجهة أعدائه، بحكمة، وأناة، وبلا أخطاء. ويقدِّر الكاتب قوة إرادة الإنسان وعزيمته، ويؤكد أن البقاء ليس لمن هو أجدر، إنما لمن هو أقدر على التصرف بحكمة. والعجوز سانتياغو يشعر بالإعجاب والاحترام نحو قوة خصمه السمكة التي تناضل بدورها للخلاص، وكان يقاومها بحب، إنه يرى أن خصمه جدير بالإعجاب، بل جدير بالحياة: “لو كنتُ مكانها لظللت أسبح وأسبحُ إلى أن أفلت من الحبل”. لكنه كان يحتقر أعداءه الذين يعتدون على جهده، وينتهزون المواقف، كان ينظر إلى القروش بعين الاحتقار والكره، وكان يقاومها بكره، حتى إنه كان يعتذر إلى السمكة: “إنني آسفُ لك أيتها السمكة، لقد ساءَ كلّ شيء”.