fbpx

في طبيعة استعصاء مسارات الدبلوماسية الأمريكية تجاه قضايا السلام والحرب الإقليميّة!

0 39

في الجهود الدبلوماسية المستمرّة، تقود الولايات المتحدة نشاطاً موازياً على أكثر من «محور» لتحقيق هدف أساسي، وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية.

على المستوى الدولي، حضر الرئيس بايدن قمة أوروبية مصغّرة في برلين، جمعته مع زعماء ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، حيث “ناقشوا الوضع في لبنان واتفقوا على ضرورة العمل على التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 والتوصل إلى حل دبلوماسي يسمح للمدنيين على جانبي الخط الأزرق بالعودة إلى منازلهم بأمان”، كما جاء في بيان البيت الأبيض بتاريخ 18 أكتوبر.

وفي السياق نفسه، يقود “هوكشتاين” جهوداً منسقة مع فرنسا وإيران وقطر والحكومة اللبنانية لتحقيق الهدف نفسه، وتحت سقف مُعَدّل من القرار 1701، ولم يحصل اللبنانيون على شيء، كما أكّد ميقاتي في لقاء الأمس مع «المبعوث الخاص» لبايدن!!

غني عن البيان أن «سبب الاستعصاء» هو اعتقاد الإسرائيليين أنّ عواقب هجوم طوفان الأقصى تُعطيهم مبررات التقاط فرصة تاريخية لتحقيق أهداف استراتيجية ترتبط بتفكيك مرتكزات المشروع الإيراني، وأنّ الوقائع الجديدة التي خلقتها آلة التدمير الهمجية في سياقات الحروب التكتيكية المتتالية قد تجاوزت أهداف كل الصيغ الأمريكية المطروحة التي تُتيح “في اليوم التالي” الحفاظ على “نقاط الاشتباك ” الفلسطينية واللبنانية ( والسورية) التي كانت قائمة قبل السابع من أكتوبر 2023، 23 أيلول/سبتمبر 2024، في ظل قوانين اشتباك جديدة، تُمَكّن وتحمي دور حزب الله الإقليمي ووظيفته اللبنانية.

في الواقع، لا يخرج عن “الإطار الدبلوماسي” الأمريكي الجهود التي تسعى الأطراف نفسها إليها من أجل منع حراك “المعارضة اللبنانية” من استغلال فرصة الضعف الملموس الحالي لحزب الله لكي يوقفوا مسار الانهيار الذي فشّل مؤسسات الدولة، عبر إطلاق مسار عمل حكومي جديد وحازم، يبدأ بخطوة انتخاب رئيس لبناني قوي وتشكيل حكومة إنقاذ وطنية، تكون على مستوى التحديات – القدرة على الالتزام باستراتيجية أمنية شاملة، مثل استدعاء الاحتياط وإعلان حالة الطوارئ، والاستعداد لأي صراعات محتملة قد تترتب. من حيث النتائج، يبدو واضحا أنّ الهدف الرئيسي ل «مؤتمر باريس» الذي يقود جهوده الرئيس الفرنسي، هو السعي لتعزيز شرعية “الحكومة المُعطّلة”، الفاقدة للشرعية، وضخ المزيد من الأموال في جيوب وخزائن المسؤولين وشركائهم في حزب الله.

وفي كل الأحوال، فإن نتائج المعارك الدبلوماسية هي انعكاس للحروب الميدانية، التي لاتخرج عن سياق الجهود الدبلوماسية الأمريكية، ويحاول الإيرانيون من خلالها إلحاق خسائر رادعة بجيش العدو الغازي، علّها تُجبر قيادته السياسية على القبول بوقف إطلاق نار في «الربع الأخير من السباق»، وبالتالي الحفاظ على نقطة وقواعد الاشتباك القائمة، بينما تأمل حكومة الحرب الإسرائيلية أنّ يؤدّي المزيد من التصعيد إلى صناعة وقائع نوعية جديدة، تَتخَطَّى جميع قواعد الاشتباك[1]، ودون أن يولي أيّ من القوى المتورّطة اهتماما جدّيا لما تجرّه حروبهم من ويلات وخراب[2]!

إن الخداع الكبير الذي تمارسه وسائل الإعلام للتمويه على طبيعة أهداف وأدوات مشروع السيطرة الإقليمي الأمريكي – المسؤول الأول عن كل ما حدث من دمار وخراب محلي وإقليمي منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، خاصة في مرحلة «توسيع مشروع السيطرة الإقليمية الإيرانية» بعد عام 1980 – هو تغييب طبيعة الحرب من خلال وضع واشنطن الديمقراطية وتل أبيب الصهيونية اليمينية في خندق واحد، في مواجهة المشروع الإيراني[3]، في تجاهل لأخطر حقائق الصراع التي تظهر أن العامل الأساسي في فشل جهود التسويات السياسية الإقليمية الشاملة خلال التسعينيات، على المسارات السورية والفلسطينية واللبنانية، واستمرار حلقات الحروب المتعاقبة، لم يكن سوى ضرورات تقدّم قطار مشروع السيطرة الإقليمية التشاركية -الأيرو أميركي- الذي تطلبت أدواته ومنهجه بناء وديمومة مواقع اشتباك عسكرية في فلسطين وجنوب لبنان، تحميها قواعد اشتباك دبلوماسية وسياسية أميركية، على حساب مسارات التسوية السياسية الدائمة… التي كانت على وشك أن تتحقق قبل نهاية الألفية الثانية، وكانت كافية لوقف حمام الدم ومسلسل الدمار[4]..

يبدو حتى هذه اللحظة أن نتائج ومخرجات الحرب العسكرية والدبلوماسية غير واضحة:

الأمر الوحيد الواضح هو استمرار مسرح الجريمة بحلقات الدمار والتهجير والقتل وانهيار الدولة اللبنانية، خدمة لشبكة السيطرة التشاركية الإقليمية واللبنانية بين الولايات المتحدة وسلطة النظام الإيراني!.

لا تستمر إدارة بايدن في تجاهل حقائق الدمار الذي أحدثه تحالف “الديمقراطيين” الإقليمي مع سلطة النظام الإيراني منذ بداية عام 1980 فحسب، بل أيضاً الأصوات الأميركية التي تقترح حلولاً استراتيجية دائمة توقف مسارات الصراع القائمة!

في ضوء إدراكه لطبيعة أسباب الصراعات الإقليمية المستمرّة، يتوصّل توماس فريدمان، الصحفي والكاتب الأمريكي المُقرّب من إدارة بايدن إلى استنتاجات موضوعية في مقال رأي بصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية يوم الخميس17 أكتوبر/تشرين الأول، تحت عنوان «حان الوقت لأميركا أن تتعامل بواقعية مع إيران وإسرائيل “، تشرح خطوات وموجّبات اتفاق شامل، يعتقد الكاتب انّه يجب على واشنطن أن تعمل على تنفيذه، “إذا أرادت شرق أوسط ينعم بالسلام”:

“إنهاء الإمبريالية الإيرانية في لبنان والعراق وسوريا واليمن وغزة مقابل التزامنا بعدم الإطاحة بنظامكم، ولكن بدلاً من ذلك المشاركة معكم في بناء ترتيب أمني جماعي على مستوى المنطقة. أنتم تنسحبون، ونحن ننسحب، وإسرائيل تنسحب”. “الشيطان الأكبر” يعترف بإيران كجزء ضروري من أي نظام أمني إقليمي جماعي، مقابل إنهاء “تسليح حزب الله والحوثيين والميليشيات الشيعية في العراق… سنجعل الإسرائيليين ينسحبون من جنوب لبنان وغزة”.. وسوف يحل الجيش اللبناني وقوة دولية فتاكة محل حزب الله، كما ستحل قوة حفظ سلام عربية محل حماس. كما سنشجع إسرائيل على الحد من أي ضربة انتقامية ضدكم”. “علينا أن نحدد الخيارات المتاحة أمام القيادة الدينية في إيران: استئناف المحادثات النووية، وإنهاء إمداد وكلائها بآلاف الصواريخ، والقدرة على البقاء في السلطة”. “وإلا فسنزوّد إسرائيل بكل الأسلحة اللازمة، بما في ذلك تصميم قنابل معززة للتحصينات بوزن 30 ألف رطل، ومن ثم تدمير المنشآت النووية المدفونة بعمق بقاذفات القنابل من طراز B”-2″.

ثم يضيف: “…هذا الهراء المتمثل في رعاية الدول الفاشلة في لبنان واليمن وسوريا والعراق حتى تتمكن شعوبها من القتال والموت بينما تهتف طهران بأمان – يتوقف الآن”.

من المؤسف حقّا أنّ يتجاهل فريدمان، وغيره من صنّاع الرأي العام، في أطروحات الحلول المُقترحة حقيقة أنّ العامل الأساسي الذي يمنع واشنطن الديمقراطية من انتهاج استراتيجية سلام شاملة يكمن في طبيعة آليات السيطرة الإقليمية الأمريكية الإيرانية التشاركية التي توجّب في أولويات السياسات الأمريكية الربط بين حماية سلطة النظام الإيراني وأدوات شبكة السيطرة الإقليمية، وهو ما يمنع تنفيذ ما يقترحه، ويبيّن أبرز العوامل الجوهرية في أسباب استعصاء مسارات الدبلوماسية الأمريكية:

تُدرك واشنطن، كما تدرك طهران، أنّ السير على مسارات التقارب والإصلاح محليّا أو إقليميّا تهدد عوامل استمرار سلطة أمر واقع تفتقر إلى كل عوامل الشرعية الدولية والوطنية، وأن استمرار العداء مع أمريكا وإسرائيل يشكّل أهمية قصوى لديمومة سلطة النظام الإيراني، وبالتالي أدوات السيطرة الإقليميّة التشاركية!!.


[1]– على مدى عقود قبل 7 أكتوبر 2023، تمكنت قيادة محور المقاومة من شن حروب استنزاف ضد جيش الاحتلال من خلال بناء “نقاط اشتباك” كانت محمية سياسيا ودبلوماسيا بقواعد الاشتباك الأمريكية، وما زالوا يعتقدون أنه يمكن الحفاظ عليهم في تطورات تداعيات هجمة فيضان الأقصى!

في المقابل، ترى العديد من المصادر أنّ إسرائيل لن تكرر تجربة احتلال لبنان عام 1982 أو إنشاء منطقة عازلة كما حدث في دولة “جنوب لبنان”، وأنها ستتجنب حرب استنزاف بمقاومة لبنانية دفاعية شرسة ستلحق خسائر مؤكدة في أرواح جنود إسرائيليين. الخطط والسياسات الإسرائيلية في مواجهة عواقب طوفان الأقصى مختلفة نوعيا، وقد وأوضح رئيس حكومة الحرب أنّه يعمل على “إنهاء الخطر القادم من لبنان” من خلال استراتيجية مختلفة، تتضمن استمرار القصف الجوي المدمّر للبشر والعتاد والحجر، مع توغُّلات برية، وتنفيذ مهام محددة، تستمر لأيام، وبعد الانتهاء منها يعودون إلى قواعدهم داخل إسرائيل!

على أية حال، يبدو واضحاً أنّ ما لم تقدره قيادة طهران هو أنّ إسرائيل، منذ فشل مفاوضات نهاية عام 1999 في كامب ديفيد قبل ربع قرن تقريباً، “عملت جاهدة لإعداد نفسها عسكرياً واستخباراتياً وفنياً”. وإلغاء نقطة الصراع ولو بتدمير بلد بأكمله، وهذا ما تسعى إليه الآن.”

وفي السياق نفسه، يقدم إعلام المقاومة صورة تفصيلية عن حجم ومدى الاجتياح البري، كما جاء في ملخص ميداني صادر عن “غرفة عمليات المقاومة الإسلامية”:

“…إن مجاهدي المقاومة الإسلامية يتصدون لهذه المحاولات على أكثر من محور وفق ما يلي:

المحور الأول: منطقة عمليات الفرقة 146 الممتدة من الناقورة غرباً حتى مروحين شرقاً.

المحور الثاني: منطقة عمليات الفرقة 36، الممتدة من راميا غرباً إلى رميش شرقاً (بما في ذلك عيتا الشعب)، ومن رميش وصولاً إلى عيترون شرقاً.

المحور الثالث: منطقة عمليات الفرقة 91 الممتدة من البليدة جنوباً إلى الحولة شمالاً.

المحور الرابع: منطقة عمليات الفرقة 98 الممتدة من مركبا جنوباً حتى قرية الغجر اللبنانية المحتلة شرقاً.

المحور الخامس: منطقة عمليات الفرقة 210 الممتدة من قرية الغجر حتى مزارع شبعا اللبنانية المحتلة.

[2]– آخر أخبار الغارات الجوية تحدثت عن استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت ليلة أمس بـ 17 غارة، دمرت إحداها على “الليلكي” 6 مباني، وأشعلت حرائق واسعة النطاق!

[3]– لنأخذ مثالاً على ما يقوله الإعلام في موقع “بيروت بوست”:

كشف مصدر دبلوماسي فرنسي، ان رفع رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف سقف كلامه، جاء بعدما نسفت واشنطن وتل ابيب، صيغة فرنسية – ايرانية، متداولة مستوحاة من روحية القرار 1701 مع تعديلات جديدة تتحدث بالتفصيل عن انتشار الجيش اللبناني على الحدود، وتراجع وجود عناصر حزب الله، ومنح صلاحيات أوسع لليونيفيل مع الجيش.”

[4]– ادّعت «هدى الحسيني “(صحفية وكاتبة سياسية لبنانية) في مقال بعنوان «الحرب ضد حزب الله تستهدف نفوذ إيران في لبنان» (الشرق الأوسط، لندن، 17 أكتوبر 2024،وبناءً على ما نشره الصحفي الإسرائيلي “شمعون آران” من صور ومحاضر اجتماعات التفاوض التي رعتها واشنطن نهاية الأول من كانون الثاني/يناير 1999 بين وزير الخارجية السوري آنذاك فاروق الشرع ورئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك، أنّ نقطة الخلاف الأساسية التي حالت دون التوصل إلى اتفاق نهائي تمثّلت بإصرار فاروق الشرع على بقاء نقطة الاشتباك القائمة في جنوب لبنان لحين تنفيذ مراحل الاتفاق بالكامل، وهو ما رفضه باراك، موضّحا أن حكومته تعهدت أمام الكنيست والمواطنين بالانسحاب الكامل من لبنان قبل منتصف… وقد توفي الرئيس الأسد بعد فترة وجيزة ولم يتمكن من تعويض الفرصة التي أضاعها الشرع!

المؤسف أنّه قد حصل الانسحاب دون استعادة الجولان، وشكل خطوة بالغة الأهمية في رحلة سلاح حزب الله، الذي شرّعنه لبنانياً وإقليميّاً اتفاق الطائف عام 1989، للسيطرة على لبنان، ومن خلاله سيطرة إيران، التي تعززت بعد الانسحاب السوري عام 2005، وأصبحت راسخة بانتخاب ميشيل عون رئيساً للجمهورية!.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني