fbpx

في ذكرى رحيل آخر أصدقاء الشعب السوري

0 97

سلامة كيلة (مواليد بيرزيت 1955)، رحل عن عالمنا في عمّان، بتاريخ 2018/10/1، بعد صراع طويل مع أذرع الاستبداد والمرض؛ وهو المثقّف والمفكّر الماركسي المُبدع والشجاع، الذي تجاوز في قراءاته جميع “الخطوط” الفكرية والسياسية، وهو أيضا المناضل السياسي، الديمقراطي، الذي جسّد في سلوكه وفكره ووعيه السياسي، نموذجا لوحدة نضال ومصير شعوب فلسطين والأردن وسوريا والعراق!.

هو الفلسطيني، العراقي والأردني، الذي ضحّى لقضيّة النضال الديمقراطي للشعب السوري من حريّته وتفكيره ومشاعره، أكثر مما قدّم لفلسطين، وانحاز في سياقات التراجيديا السوريّة لجانب حقوق السوريين، ومعاناتهم، في مواجهة أكثر أشكال الاضطهاد والظلم التي تعرّضت لها شعوب المنطقة!.

قدّم سلامة، المنتمي لقضيّة الشعب السوري، بأبعادها الإنسانية والاخلاقية والمعرفية والسياسية، قراءة موضوعية لطبيعة الصراع على سوريا، وبيّن طبيعة أهدافه، والعلاقات بين قواه؛ كاشفاً طبيعة المصالح والسياسات التي وحّدت جهود قوى متناقضة في أهداف مشاريعها الخاصّة، في مواجهة استحقاقات ديمقراطية وطنية، في ربيع 2011، وعملت في سياق مشروع متكامل لهزيمة أهداف الحراك الشعبي السلمي الإصلاحي، ولتلقين السوريين، الذي تجرؤوا على الحلم، درساً في الهزيمة؛ مؤكّداً مسؤولية الجميع عن صناعة التراجيديا السورية!.

لقد تميّز المناضل الفلسطيني السوري البارز، الراحل “سلامه كيلة”، في رؤيته لشبكة المصالح التي ارتكز عليها تحالف قوى الثورة المضادة، كما طرحه في كتابه “التراجيديا السوريّة”، حيث رسم، بوعي المفكر الثوري، والمناضل السياسي الخبير، في كتابه “التراجيديا السورية” بانوراما كاملة للثورة السورية، وذلك بعد أن يحدد مفاتيح فهمها، فيعود للأساسات الأولى التي تجعل عملية التفكير بما جرى، أكثر وضوحاً، متسائلاً:

هل نفهم الثورة السورية بذاتها، أو نفهمها عبر انعكاسها الخارجي، ومواقف القوى الخارجية منها؟ هل نفهمها كنتاج تكوين اقتصادي طبقي داخلي، أو كانعكاس لسياسات الآخرين، وللأوضاع الدولية؟.

وبعد أن يحدد مستويات أساسية وهامّة لتنظيم عملية التفكير وقراءة الأحداث دون الخلط والتجاوز بين هذه المستويات، أو التركيز على بعضها وتجاهل بعضها الآخر.

  1. المستوى الأول هو الجذر، وهو الأساس، ويتعلق بالتكوين الاقتصادي الطبقي، وأنّ الثورة هي نتيجة تفاقم الصراع الطبقي على ضوء التمايز الهائل بين أقلية نهبت ومركزت الثروة، وأغلبية أُفقرت؟ هنا نحن نلمس وضع «الناس»، ظروف معيشتهم ومقدرتهم على العيش.
  2. المستوى الثاني يتعلق بالتعبير السياسي عن الشعب، هل أن المعارضة هي جزء من الشعب، وتعبّر في سياساتها وفاعليتها عنه؟ أم أنها منعزلة، ولا تتلمّس مشكلات الشعب، بل تعبّر عن مصالح نخب منعزلة؟.
  3. المستوى الثالث يتعلق بوضع السلطة، طابعها الطبقي وتكوينها، وكيف أنها تمثّل فئة مافيوية تنهب وتمركز الثروة، وبالتالي تدافع عن مصالحها، ولا تمتلك المرونة؛ لكي تتنازل أو تقدّم حلولاً للمشكلات المجتمعية.
  4. المستوى الرابع يتعلق بالتوضّع العالمي لسورية، وأثر ذلك في الموقف من الثورة، وهل أن الخلاف مع السلطة يستتبع – حتماً – دعم الثورة، أو أن الثورة هي الشرّ الذي يخيف الرأسمالية والنظم المافيوية؟.

يؤكّد المفكّر العظيم سلامة كيلة على حقيقة أنّ ليست التصريحات هي التي تحدد المواقف، بل المصالح، والممارسة، هي التي تعطي فهم جوهر مواقف الدول الإمبريالية، والنظم النفطية والمافياوية.

يضع الكاتب تكثيف لوجهة نظره، على صفحة الغلاف: “فعَّلت الثورات في تونس ومصر الحراك السوري، الذي تعاطف معها، ومن ثم السعي لصنع ثورة. وساعد ما حدث في درعا، من عنف في مواجه مطالب شعبية، على أن تنفجر الثورة. لكن هذه الثورات فعَّلت أيضاً عنف النظام السوري الذي رأى كيف يتهاوى رؤساء أمام حشود الملايين، الأمر الذي جعله يحسم منذ البدء بمنع كل تجمع بكل العنف الممكن”.

كذلك استثارت الثورات أيضاً نظماً إقليمية، بدرجات متفاوتة القوة، فأصبحت تلك النظم معنية بوقف هذا الزحف المخيف، الذي يتضخّم يوماً بعد. وكذلك استثارت النظم الرأسمالية، التي أشَّرت أزمة 2088 الاقتصادية، التي لم يكن ممكناً حلها، أنها في وضع صعب ينذر بانفجار عالمي كبير، توحي الأزمة وتوابعها أنه بات محتماً. ولهذا كان عليها أن تنشط من أجل إخماد تلك الثورات بكل الأشكال الممكنة.

كل ذلك كان يعني التوافق مع النظام علناً أو سراً، والشغل على تشويه الثورة عبر تحويلها إلى صراعات «طائفية»، و«حرب أهلية»، «ونزاع مسلح». ومن ثم الانتقال إلى «الحرب ضد الإرهاب» بعد تسريب مجموعات من تنظيم القاعدة وتشكيل داعش. كل تلك النظم، من النظام السوري والدول الإقليمية والإمبريالية الأميركية عملت على ذلك بتناسق كامل. فالأهم كان تدمير الثورة، وتحويلها إلى مجزرة تكون مثالاً لشعوب العالم التي تتحفز للثورة كي تتردد ولا تجرؤ على التحرك.

أمّا الحديث عن عوامل العفن المتأصّل في التراث وتركيبة المجتمع السوري الطائفية والإثنية، وعلاقات النظام الطائفية، لتغييب مسؤولية شركاء الجريمة الحقيقيون، فقد تركها لرفاق الأمس، الذين تعربشوا قوارب النجاة التي أطلقتها قوى الثورة المضادة  للتغيير الديمقراطي، سوريّاً، وخليجيّاً وتركيّاً وأوروبيّاً وأمريكيّاً، لاصطياد المناضلين، وتحويلهم إلى هياكل مرتهنة!.

تستحق كتبه الكاشفة للحقائق كلّ الاهتمام، وفكره وإخلاصه، التحيّة وذكراه المجد.

كتب الصديق «Aram Karabet» في الذكرى السنوية لرحيل سلامة كيلة: «رأيت سلامة كيلة أول مرة عندما دخل الجناح السياسي في سجن عدرا، شاباً وسيماً، رشيق الجسم، شعره أسود فاحم، حنطي اللون أقرب للسمرة، يعج بالحيوية والنشاط.

وبالرغم من مكوثه في الزنزانة الانفرادية مدة سنة وشهرين، وبالرغم من التعذيب والبرد الشديدان الذي تعرض له، والضغط النفسي الذي عاناه إلا أنه كان متفائلاً.

لقد أذته الزنزانة والسجن كثيراً، وتواطأ جسده الضعيف ضده عندما أوقعه مريضاً معذباً بقية حياته. لم يكن سلامة مقتنعاً بسجنه، قالها مرات كثيرة، أنه لا ينتمي إلى أي تنظيم سياسي، ولكن تم الابلاغ عنه ظلماً.

عشنا معاً في المهجع الثاني في سجن عدرا حوالي الثلاث سنوات، كنّا، أنا وهو، نأكل معاً في الفترة الأخيرة، هو يطبخ مرات وأنا مرات على سخانة مخصصة للطعام والشاي.

وبعد سنتين ونصف السنة من مكوثنا في سجن تدمر، ألحقوه بنا إلى تدمر في 15 تموز العام 1998 إلى حين خروجه منه في 22 آذار العام 2000.

سلامة إنسان نقي القلب والضمير، خالي من العقد والأمراض النفسية في فترة السجن، كريماً، لطيفاً شهماً، لا يعرف الخبث والاعيب السياسيين، ولا دسائسهم.

إنه نموذج مختلف عن السياسيين، ولأنه لا يعرف الخبث، كان يتعرض للأذى النفسي منهم.
السجن عالم الزنادقة، إن لم تكن قوياً حذراً، يقظاً سيأكلك من حولك».

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني