طوفان الأقصى، ومآلات الحرب في ضوء جهود ودوافع واشنطن!
في ربيع 2011، يتفجر حراك شعبي، سلمي على خلفية عوامل سورية، وفي سياق إقليمي ثوري، ليتحول تدريجياً، بتقاطع مصالح وجهود وسياسات تحالف قوى سورية وإقليمية ودولية تتناقض مصالح أطرافه مع إمكانية حصول انتقال سياسي وتحول ديمقراطي، إلى حرب ميليشياوية طائفية؛ وقد سعت أطرافه الدولية لاحقاً إلى تجيير ما حصل من تفشيل لمقومات الدولة لتحقيق أجندات سياسية خاصة، ارتبطت بإعادة تقاسم السيطرة الجيوسياسية، وقد قادت الولايات المتحدة وروسيا بين 2015-2020، حروباً شرسة، شاركت فيها أنظمة إيران وسوريا وتركيا بـأدوار متنافسة وأهداف خاصة متباينة، وقد انتهت معاركها الكبرى بتوافقات سياسية عامة في مطلع 2020 على ما فرضته موازين الحرب!!.
عندما أنجزت الولايات المتحدة أهداف معاركها ضد داعش قبل نهاية 2019، بتحالف رئيسي، ميداني وسياسي، مع ما بات قوات سوريا الديمقراطية، كانت قد حققت هدفها المركزي من حروب إعادة تقاسم الجغرافيا السورية، وذلك باقتطاع حصة خاصة على مناطق السيطرة الداعشية أصبحت مناطق الإدارة الذاتية لإقامة قاعدة ارتكاز أمريكية دائمة. عندها، لم يعد لها مصلحة في استمرار الحرب، وسعت لتحقيق تسوية سياسية، على الصعيدين السوري والإقليمي؛ وقد توافق موقفها مع روسيا؛ بعد توقيع موسكو اتفاقيات 5 آذار 2020 مع أنقرة، ووصول القيادة الروسية إلى إدراك واقع أن استمرار المواجهات بين البلدين، التي وصلت في نهاية 2019 إلى مستويات تصعيد خطيرة، قد تفضي إلى حرب إقليمية كبرى، و أن من الأفضل العودة إلى مساري جنيف وأستانة للوصول إلى تسوية سياسية، قد تؤدي بالنتيجة إلى إعادة سيطرة النظام على كامل الجغرافيا، وبالتالي تحقيق كامل أهداف الروس السياسية.
هذا التوافق الروسي الأمريكي على ضرورة إطلاق مسار تسوية سياسية لم يمنع من اختلاف مصالح ورؤى الدولتين على طبيعة المسار، ومآلاته، كما اتضح لاحقا، كما لم يقنع الشريكين الآخرين، الإيراني والتركي (ولا الإسرائيلي) بعادلة توزيع الحصص، وعدم السعي لتغيير الوقائع، بجميع الوسائل، وهو ما فتح أبواب مشرعة لمعارك متجددة، ما تزال مستمرة حتى اليوم بأشكال مختلفة!.
على أية حال، تبين فيما بعد طبيعة تناقض سياسات واشنطن وموسكو حول مشروع التسوية السياسية:
- على الصعيد السوري، ووفقا لمشروع، RAND، سعت واشنطن لتحقيق أهداف تسوية سياسية تقوم على قاعدة التوصل إلى هدنة مستدامة بين سلطات الأمر الواقع، توفر ظروف تأهيلها سياسيا واقتصاديا على حصص القوى الخارجية، بالتزامن والتكامل والتساوق مع إعادة تأهيل السلطة الشرعية، بما يؤدي إلى شرعنة سورية لواقع السيطرة الجيوسياسية، ويضمن مصالح الجميع، في حكومات الاحتلال وسلطات الأمر الواقع، ويضمن في نهاية المطاف، ديمومة السيطرة الأمريكية على حصة قسد وفي منطقة التنف؛ وقد ساعد تورط روسيا في حرب أوكرانيا خلال 2022 تحقيق خطوات كبيرة على هذا المسار، خاصة بعد كارثة زلزال شباط 2023، رغم تناقض المصالح التكتيكي، وما نتج عنه من الصراع بيني، في محاولة كل طرف لتحسين شروط حصته، ومناطق نفوذه.
- على الصعيد الإقليمي، وبالتكامل مع جهود وإجراءات التأهيل وإعادة التأهيل على الصعيد السوري، سعت الولايات المتحدة للوصول إلى تهدئة مستدامة، عبر دفع الانظمة التي تصارعت على السلطة بين 2011-2014 والتي تحاربت على تقاسم الجغرافيا بعد 2015، على مسارات تطبيع علاقات، أخذ عملياً عدة مسارات:
- تسريع خطوات التطبيع بين الأنظمة العربية وإسرائيل، عبر قنوات اتصال علنية ومباشرة مع بعضها، كالإمارات والبحرين والسودان، وأخرى تحت الطاولة لاعتبارات خاصة، كالسعودية وتونس وقطر، وقد توجته الولايات المتحدة بتأسيس محور عسكري، أتاح التحاق قيادة الجيش الاسرائيلي ب القيادة المركزية الوسطى التي يقع مقرها في قطر، والتي شملت سابقا معظم قادة جيوش دول الإقليم، بما فيهم السعودي.
- فتح أبواب التطبيع بين النظامين السعودي والإيراني و(اليمني)، وقد نجحت الوساطة العمانية – الصينية في توصل الجارين اللدودين إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة، ورعت واشنطن بنفسها اتفاق السلام في اليمن!.
- التكريس الرسمي لخطوات التطبيع بين النظام السوري وأنظمة الجامعة، وقد شكلت قمة جدة ذروة الإجراءات التي استهلها النظامين الأردني والإماراتي بعد 2020!.
- انكشاف مظاهر علاقات تطبيع أكثر أهمية بين إدارة بايدن والنظام الايراني؛ لما تشكله من ضرورة لإنجاز مسار التسوية السياسية في سوريا، الذي يحدد مآلات النهائية طبيعة علاقات السيطرة التشاركية الإيرانية الأمريكية!.
لقد مثل وصول الولايات المتحدة والنظام الايراني الى إطار تفاهمات مشتركة غير مُعلن حول الملف النووي الإيراني، وحصول إيران على ستة مليارات كانت مجمدة في بنوك كوريا الجنوبية كدفعة أولى، تحت غطاء الإفراج عن محتجزين أمريكيين، ذروة نجاح خطوات التطبيع بين أصحاب أكبر مشروعي سيطرة إقليمية.
ثانياً: في سياق ما حققته خطوات وإجراءات التسوية السياسية الأمريكية من نجاح على الصعيدين السوري والإقليمي، رغم استمرار وجود بعض العقبات المرتبطة بتعقيدات العلاقات وصعوبة التفاهمات بين قسد وحكومة النظام وتصاعد اشكال الرفض الإسرائيلي لاستمرار الوجود الإيراني، يُفاجئ الجميع رئيس أركان كتائب القسام المجاهد محمد الضيف، بعملية طوفان الأقصى، وما استخدمتها من وسائل وأدوات مبتكرة، الحقت خسائر جسيمة بمواقع عسكرية، وأوقعت مئات الإسرائيليين بين قتيل وجريح وأسير، واصابت هيبة الجيش الذي لا يُقهر!.
في أجواء الحرب الإنتقامية التي أعلنت عنها حكومة اتحاد وطني بقيادة نتنياهو، (الأكثر سوأ بين قادة العدو، والمسؤول الاول عن استمرار الصراع الدموي بعد تربعه على عرش الزعامة الإسرائيلية في أعقاب اغتيال رئيس الحكومة رابين 1995، صاحب وديعة السلام بين سوريا وإسرائيل، وفي ما بدا من خطوات وإجراءات رد انتقامية صارمة، قد تصل إلى مستوى غزو غزة، وإسقاط حماس، وما يمكن أن يستجره من تدخلات إقليمية، خاصة من قبل حزب الله، أو عبر الجولان المحتل، وما قد ينتج عنه من تفاقم الصراع الإقليمي، يقلب مخططات التطبيع الإقليمي والتسوية السياسية الأمريكية في سوريا، رأساً على عقب، ويفشل ما بذلته واشنطن من جهد، وما حققته من إنجازات، طوال سنوات)، كان من الطبيعي، في منطق مصالح السيطرة التشاركية الإقليمية الأمريكية وسياساتها التطبيعية، أن تستنفر الإدارة والكونغرس في مسع لحصر حدود الصراع، ومنع امتداد نيرانه إلى ساحات إقليمية مجاورة[1]، وقد اشتغلت إدارة بايدن على مسارين متوازيين:
- حربي، واستعراض للقوة، تخلله توجيه تهديدات صارمة للقيادة الإيرانية ولحزب الله بعواقب تدخلهم في الصراع؛ وقد التقطوا فحوى الرسالة، وتجاوبوا مع مضمونها[2].
- دبلوماسي، أخذ ثلاث اتجاهات:
- الحكومة الإسرائيلية، واستخدام كل وسائل الجزرة[3] لثنيها عن عزمها الواضح بغزو الكانتون الحمساوي، وصلت إلى درجة تزلف لا تليق بوزير خارجية دولة ديمقراطية عظمى![4].
- الحكومة اللبنانية، وأصدقاء واشنطن في بيروت، لمنع الحزب من التدخل المباشر أو غير المباشر.
- النظام الإيراني، عبر أصدقاء الولايات المتحدة في مصر وتركيا، للتأكيد على مخاطر توسيع نطاق الحرب، وضرورة العمل على التهدئة.
يبدو جلياً تعارض مصالح وسياسات الولايات المتحدة مع احتمال غزو غزة، وما قد يستجره من صراع إقليمي، وما تبذله قيادات الولايات المتحدة وإدارة بايدن، وبايدن شخصيا لمنع مسار التصعيد[5]، في ظل عوامل إسرائيلية داخلية، تضغط باتجاهه، ليبقى التساؤل الرئيسي الذي يطرح نفسه: هل تنجح جهود وضغوط بايدن؟ وكيف سيكون عليه حال المشهد السياسي والعسكري الجديد في حال تقدم مدرعات جيش الدفاع الإسرائيلي على دروب حكومة حماس؟.
هل ستشهد المعارك الأخيرة تصعيداً ميدانياً ينسف جهود الإدارة الأميركية، ويدفع الحرب إلى داخل غزة؟ وماذا ستكون العواقب في سوريا، وحدود التماس الهشة بين سلطات الأمر الواقع!.
أعتقد أن تطور أحداث الحرب خلال الساعات القليلة القادمة قد يحدد طبيعة مآلات الصراع وآفاق العلاقات بين جميع الأطراف.
[1]– في كلمة وزير الخارجية الأمريكي في لقاء نتنياهو: إننا نتبع دبلوماسية مكثفة في جميع أنحاء المنطقة لمنع انتشار الصراع، وسأفعل ذلك خلال رحلتي في الأيام المقبلة إلى القاهرة وعمان.
[2]– ربط القول بالفعل في توضيح مخاطر جهود توسيع دائرة الحرب، بعث رسالة واضحة لأطراف أخرى في الشرق الأوسط، تحذرهم من التلاعب بالفرصة لشن هجمات على إسرائيل، قائلاً: اسمحوا لي أن أقول مرة أخرى، لأي بلد، أي منظمة، أي شخص يفكر في الاستفادة من هذا الوضع، لدي كلمة واحدة: لا تفعلوا.. لا تفعلوا.
[3]– في خطاب بلينكن لنتنياهو: نحن نلتزم بوعدنا بتوفير الذخيرة والمعدات الدفاعية الأخرى لإعادة تعبئة القبة الحديدية الإسرائيلية، بجانب مواد دفاعية أخرى. وقد وصلت أولى شحنات الدعم العسكري الأمريكي إلى إسرائيل بالفعل، ومزيد من الدعم في الطريق. مع تطور احتياجات الدفاع الإسرائيلية، سنعمل مع الكونغرس لضمان تلبيتها، ويمكنني أن أخبرك أن هناك دعمًا ساحقًا وعابر للأحزاب في الكونغرس الأمريكي لأمان إسرائيل.
[4]– إذا سمحتم لي بالتطرق إلى جانب شخصي، أقف أمامكم ليس فقط بصفتي وزير الخارجية الأمريكي، ولكن أيضاً كيهودي، إذا، رئيس الوزراء، أنا أستوعب على الصعيدين الشخصي والإنساني الأصداء المروعة التي تحملها مجازر حماس بالنسبة لليهود الإسرائيليين.
[5]– في خطاب مؤثر ومن القلب، أكد الرئيس الأمريكي بايدن أهم مبادئ سياسته تجاه الصراع:
- التزامه الراسخ بأمن إسرائيل ورفاهيتها.
- التأييد الكامل لحق الحكومة الإسرائيلية في الرد على الهجمات.
- الربط بين حرب إسرائيل في محاربة حماس، وحرب واشنطن ضد الإرهاب واعتبار أن مساعدتها لإسرائيل تساهم مباشرة في تعزيز أمن العالم والولايات المتحدة. وقد عزف نتنياهو على نفس النغمة، في قوله أثناء استقبال وزير الخارجية الأمريكي: حماس هي داعش، وكما تم سحق داعش، سيتم سحق حماس أيضاً. ويجب أن تعامل حماس تماماً كما عُوملت داعش.
- قيادة جهد دولي لضمان الدعم الدولي لإسرائيل وضرورتها للرد على التحديات.