fbpx

في بعض سمات المشهد السياسي الراهن

0 166

كم هو مٌحبط هذا الوعي السياسي النخبوي الذي لا يجد ما يعبّر عنه تجاه تسارع خطوات التطبيع الإقليمي سوى الاستغراب أو الإدانة؛ كما تجاه نتائج جولات اللجنة الدستورية المكوكيّة!.

هي حالة خلل في الوعي السياسي، تظهر تجاهله لعوامل السياق، وكأن سياسات الدول وسلوك أنظمتها مجرّد ردّات فعل، ومواقف ارتجاليه!.

أعتقد أنّ سياسات الرئيس التركي الجديدة تجاه ملفّات الصراع على سوريا، وما سبقها ويواكبها من سياسات حربيّة أو دبلوماسية، تجد ما يفسّرها بشكل موضوعي في مقاربة عوامل السياق التاريخي للصراع على سوريا وموقع المصالح العليا للدولة التركية؛ الذي أخذ في أخطر أشكاله مسار الخيار العسكري الطائفي خلال 2011/2012، في مواجهة حراك السوريين السلمي، وفي مسعى لقطع مسار إصلاح/انتقال سياسي، أصبح حينئذ ضرورة تاريخية، ليس فقط للحفاظ على مقوّمات الدولة السورية، بل، وعلاوة على ذلك، لضمان استمرار مصالح تركيا -أكبر وأهم عوامل الاستقرار الجيوسياسي السوري، بالمقارنة مع المنافسين، الإقليميين والدوليين!.
الجديد اليوم[1]، الذي يفاجئ البعض، نخبا وعامّة، يأتي في إطار استكمال خطوات التطبيع الإقليمي، وفي سياق تحقيق أهداف مشروع التسوية السياسية الأمريكي، الذي بدأت أولى مراحله مع تدخّل الولايات المتّحدة وروسيا 2014-2015، ووصل اليوم إلى مرحلة متقدمة، تتمثل في جهود الوصول إلى صفقة سياسية شاملة، ثلاثية الأبعاد؛ تركية/سورية – إيرانية، وتركية/روسية، وتركية/أمريكية.

أن تكون تركيا هي الطرف الرئيسي في صفقة التسوية السياسية الشاملة هي نتيجة طبيعية ليس فقط لعلاقات الشراكة التاريخية، الجيوسياسية، بين الجارين، السوري والتركي، (وما تمارسه الأنظمة التركية من سياسات لحماية أمنها القومي، على حساب السيادة السورية؛ وهي حالة طبيعية في ظل ميل موازين القوى لصالح الجار الكبير!.)، بل وبسبب ما شكّلته مصالح تركيا و سياساتها تجاه قضايا الصراع على سوريا منذ 2011، المتناقضة مع أهداف مشروع الفوضى الخلّاقة الأمريكي، من عقبات كبيرة في مواجهة تقدّم خطوات المشروع، في جميع مراحل الصراع، وفي مرحلة التسوية السياسية!.

مرّة أخرى، قد يفاجئ البعض هذا الطرح، ويثير استغرابه، كأنه يشاهد مبارزة في كرة القدم لم تحقق ركلات لاعبيها الاشاوس أوهام انتصاراته!.

لمزيد من التفاصيل، دعونا نعود لحقائق الصراع في أواسط 2014، حين قررت الولايات المتّحدة، خارج توافقات مجلس الأمن الدولي، (الذي تدّعي الدعاية الأمريكية أنّ مهمّته الأساسية هي الحفاظ على السلام والأمن الدوليين!.) وبواقع كونها زعيمة النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي، وصاحبة أكبر مشروع سيطرة إقليمي، وأكثر الدول تأثيرا وفاعلية في مجرى الصراع، وتحديد مآلاته، (بخلاف ما تروّجه نخب المعارضة عن انسحاب تكتيكي وتراخٍ استراتيجي، وما يروّجه إعلام المقاومة عن هزائم وفشل أمريكي!.) إنّه قد حان الوقت لمنازلة قوى الإرهاب (بعد إنجاز المهمّة!.)، جارّة خلفها شركاء حلفها الميمون (ومنهم أعضاء دائمون في مجلس الأمن!.)، لكنّها سرعان ما أدركت، في أعقاب سلسلة من الهجمات، عجز حربها الجويّة عن إعادة رسم الخريطة العسكرية التي صنعتها حروب المرحلة الأولى(2012-2014)،كما يتوافق مع خططها لمرحلة التسوية السياسية، خاصة في مواجهة أدوات السيطرة التركية، فسعت منذ مطلع 2015، للوصول إلى تفاهمات صفقة مع النظام الروسي – القوّة الدولية الوحيدة خارج التحالف الأمريكي، القادرة على قيادة حملة برّية لمواجهة ميليشيات المعارضة، التي ترتبط بتركيا أو بالسعودية، بما يتكامل مع جهود حلف واشنطن لدحر الإرهاب الداعشي، وليس في مواجهته، كم يعتقد، ويروّج القائمين على فبركة الرأي العام السوري المعارض!.

عند أواسط 2015، وصلت الولايات المتّحدة وروسيا إلى صفقة تفاهمات مزدوجة حول سوريا وأوكرانيا (وهي نقطة جوهرية، يجهلها الرأي العام، كما تفاجأت القيادة الروسية في سرعة تخلّي الولايات المتّحدة عن تفاهماتها بعد غزو أوكرانيا، كما تفاجأ صدّام حسين بعد غزو الكويت!.)، أدّت إلى قيام تنسيق كامل، وتوزيع للأدوار، في جهود واشنطن وموسكو لإطلاق خطوات تنفيذ مشروع التسوية السياسية الأمريكية، الذي وضعت تفاصيل أهدافه وآلياته، وحيثياته، مؤسسة RAND الأمريكية (بتقاطع رؤى مع مراكز بحوث روسية)،في جزأين؛ وقد أخذت إجراءات القيادات السياسية التنفيذية مسارين:

  • حربي، عمل على إعادة توزيع الحصص التي نتجت عن حروب الخيار العسكري بين 2012-2014، بما يُعيد رسم خارطة السيطرة العسكرية والسياسية لصالح النظام السوري، ويغيّر موازين القوى، بما يتوافق مع أهداف التسوية السياسية الأمريكية، التي تطلّب تحقيقها مواجهات عسكرية وسياسية واقتصادية كبيرة مع تركيا[2] الحليف الناتويّ، والشريك التاريخي في مشروع السيطرة الإقليمية للولايات المتّحدة!.
  • سياسي، لإدارة صراع الحرب ضدّ أدوات و أذرع وخطط السيطرة التركية، عبر مسار آستنة، خاصة بعد إجبار النظام التركي على ركوب قطاره خلال 2017، وإجراءات المصالحات وصفقات التفاوض بين أقطاب ترويكا الدول الضامنة لبقاء نتائج الصراع تحت سقف أهداف المسار، وعدم تحوّلها إلى حرب إقليمية كبيرة، قد تقلب الطاولة على رؤوس الجميع!.

في نهاية 2019، وبعد اقتراب خطر المواجهة المباشرة بين الروس والأتراك إلى حدود الخط الأحمر الأمريكي، اضطرت الأطراف المتصارعة، تحت ضغوط أمريكية، للوصول إلى صفقة سياسية، وضع مرتكزاتها وتوافقاتها لقاء القمة التاريخي بين الرئيسين التركي والروسي، في 5 آذار 2020، ووضعت حدّا نهائيا للمعارك الكبرى في الصراع؛ كما يبيّن فشل الجهود التركية والروسية لخوض حروب جديدة، في مسعى من كلّ طرف لزيادة مناطق سيطرته، ومواقع نفوذه!.
في هذه المرحلة، وبعد وصول مساع الأطراف لتغيير خطوط التماس، وزيادة الحصص، خاصة النظام التركي، إلى طريق مغلق، بفعل جدار الصدّ الأمريكي، تتسارع خطوات تنفيذ أهداف التسوية السياسية الأمريكية، التي تقوم على قاعدة الوصول إلى تفاهمات بين قوى الصراع الخارجية، واعتراف متبادل بين مرتكزاتهم السوريّة، التي تحوّلت إلى سلطات أمر واقع، تؤدّي الى خلق ظروف تهدئة مستدامة، تضمن حصص ومصالح الجميع كما فرضتها موازين القوى؛ وتتيح سياسيات إعادة التأهيل؛ على حساب قيام حل سياسي وطني شامل، وبما يتعارض مع مصالح جميع السوريين المشتركة، ويعزز عوامل إضعاف الدولة السورية!.

بسبب ارتهان نخبه السياسية والثقافية لأجندات القوى الخارجية وأذرعها الداخلية المتصارعة، أو التعويل عليها، من الطبيعي أن يُصبح الوعي السياسي النخبوي منفصلا تماما عن حقائق الصراع، ويفشل في تقديم قراءة موضوعية؛ وقد ركّز جلّ اهتمامه على تروّيج ما تطرحه القوى المتورطة من دعايات أوهام وأكاذيب، لتجهيل الرأي العام السوري، وابعاده عن التأثير الفاعل على مآلات الصراع، بما يتوافق مع مصالحه الوطنية!.

من المؤسف بشكل خاص أن لا تدرك النخب السياسيّة الكردية طبيعة سياسات موقعها المرتهن على لوحة الصراع التركي/الأمريكي، وما يتركه هذا الاصطفاف بين احزاب المجلس الوطني الكردي و قوى واحزاب مسد (قسد)، من اخطار ليس فقط على مصالح الكرد الخاصة، بل وعلى مصالحهم المشتركة مع جميع السوريين في توحيد الصف الوطني الديمقراطية السوري، في مواجهة جميع أعداء التغيير الديمقراطي!.

النور، والسلام والعدالة، لنا جميعا!.


[1]– يتداول بعضهم باستغراب أو إدانة ما ورد في تصريح صحفي للرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان يوم الخميس، 15 الجاري، كشف فحوى العرض الذي قدّمه لنظيره الروسي فلاديمير بوتين حول إجراء لقاء ثلاثي مع الرئيس السوري.

وقد نُقل عن أردوغان قوله: عرضت على بوتين عقد لقاء ثلاثي بين زعماء تركيا وروسيا والنظام السوري، وتلقى العرض بإيجابية، وبهذا الشكل نكون قد بدأنا بسلسلة اللقاءات.

وأضاف: نريد أن نقدم على خطوة ثلاثية تركية روسية سورية، ولذلك يجب أولاً عقد لقاءات بين أجهزة الاستخبارات، ومن ثم وزراء الدفاع، ثم وزراء الخارجية.

[2]– ليست سوريا هي الساحة الوحيدة لتصارع المصالح والسياسات الإقليمية الأمريكية التركية، فقد كانت تركيا الدولة الإقليمية الوحيدة التي عارضت الغزو الأمريكي للعراق، ورفضت السماح لسلاح الجو الأمريكي في استخدام قاعدة إنجرليك !.على ايّة، وجهة نظر تركية واضحة تماما، شرحها الرئيس التركي في تصريحه الأخير.
تحدّث السيّد أردوغان بوضوح عن وجود معضلة في العلاقات الأمريكية الروسية، يجب حلّها، إذا ما أرادت الولايات المتّحدة لخططها النجاح:

هناك مشكلة يجب التعامل معها بسرعة، وهي أن التنظيمات الإرهابية في شمال سورية تتحرش بتركيا من وقت لآخر. وأردف: الإرهابيون يهددون ويستفزون بلدنا من هناك (شماليّ سورية)، ووفقاً لاتفاقات سابقة، سواء أستانة أو سوتشي، يحق لنا القيام بما يلزم ضمن ممرنا الأمني ​​الذي يصل إلى عمق 30 كيلومتراً.

وأشار إلى وجود جهات ترعى التنظيمات الإرهابية في الداخل السوري، مبيناً أن وحدات حماية الشعب يتلقى الدعم الأكبر من قوات التحالف الدولي.

وحذر الرئيس التركي التحالف الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، من دعم وحدات حماية الشعب، وقال: (إذا كنتم ستواصلون إمداد هذا التنظيم الإرهابي بالأسلحة والمعدات والذخائر، فإننا سنتدبر أمرنا بأنفسنا وسنقوم بما يلزم لإبعاد تهديد الإرهاب عن حدودنا).

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني