في العلاقات التكتيكيّة بين قوى الصراع، وطبيعة الصفقات السياسية المطروحة!
بين الكثير من التعثّر وتغيير الاتجاه، واحتمالات التصادم، تطرح الحركة الراهنة لقطاري العلاقات التركية – الأمريكية والتركية – الروسية/الإيرانية تساؤلات مهمّة حول طبيعة التسويات التي يتمّ تحضيرها على نار هادئة، وطبيعة الدور التركي المتميّز في معادلات الصراع الروسي الأمريكي في هذه المرحلة من ترتيبات التسوية السياسية، وتشير إلى درجة حالة الانقسام وانعدام الوزن السياسي لجميع السوريين في ما يُسمى النظام والمعارضات، وفي الرأي العام!.
تعطيل لقاء مرتقب بين وزير الخارجية التركي والسوري، كان متوقعا يوم السبت، 14 الجاري، ووصول جاويش أوغلو إلى واشنطن بزيارة عاجلة، يوم الأربعاء، 18، يسبقها بأقل من 24 ساعة زيارة لوزير الخارجية الايراني إلى أنقرة.
التساؤل الذي يطرح نفسه:
مالذي عطّل استمرار سير قطار التطبيع بين دمشق وأنقرة، وأجّل لقاء مولود جاويش أوغلو بفيصل المقداد في موسكو يوم السبت؟.
هل هي سياسات النظام الايراني المتضررة من تقدّم مشروع التطبيع أم معارضة الولايات المتّحدة؟ لا يوجد أخبار مؤكّدة، لكن ثمّة مؤشّرات. مسعى وزير الخارجية الإيراني للقاء نظيره التركي في أنقرة، قبل مغادرة الأخير إلى واشنطن، هي مؤشّر واضح.
المؤكّد هو ظهور بوادر جهود أمريكية لتحسين العلاقات مع تركيا، عبّرت عنها زيارات عدّة وفود أمريكية إلى أنقرة خلال الأسابيع الماضية، تخلّلها إعلان البيت الأبيض موافقته على إتمام صفقة طائرات F16 مع 900 صاروخ جو – جو، و800 قنبلة ذكية، في صفقة تبلغ قيمتها 27 مليار دولار، إضافة إلى ترتيبات خاصّة، تتعلّق بتهدئة التوتر مع اليونان، وانضاج ظروف انضمام السويد الى الناتو.
هذا السلوك الأمريكي، الساعي لكسب رضى أنقرة، يبيّن حقيقة ما بات عليه الوزن التركي الثقيل في معادلات الصراع الجيوسياسي على سوريا، الذي أصبح أقرب إلى بيضّة القبّان التي ترجّح ميل كفّة خطط التسوية السياسية لصالح أيٌّ من المشاريع المتنافسة، الروسية أو الأمريكية!.
على أيّة حال، كيف نفهم طبيعة المشاريع السياسية المطروحة، ومواقع تنابذ أو تجاذب القوى التي تحتلّ سوريا، وتسعى للوصول إلى تسوية سياسية، تشرعن حقائق الواقع التي رسمتها موازين قوى الصراع، في محاورها الثلاث الرئيسة التركي والأمريكي والروسي، خلال حروب تقاسم الحصص ومناطق النفوذ بين 2015-2020، وتضمن استمرارها؟.
إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ المرحلة الراهنة من الخيار العسكري الطائفي هي مرحلة التسويّة السياسية، لشرعنة ما توصّلت إليه الاتفاقات السياسية الروسية التركية (الأمريكية) وفقا لما صنعته من وقائع جديدة موازين قوى الصراع العسكرية بين 2015-2020، أعتقد أنّه في جوهر سياسات واشنطن تسعى الجهود الأمريكية لفرض رؤية واشنطن لخطّة تسوية سياسية شاملة، تقوم على مبدأ قيام تهدئة مستدامة بين جميع سلطات الأمر الواقع، وخارطة طريق تأهيل متزامن، تأمل واشنطن أن تصل مفاوضات اللجنة الدستورية إلى توافقات تشكيل حكومة وحدة وطنية، تمثّل واجهة عبور للمرحلة الجديدة، وعلى حساب روح القرار 2254، هيئة حكم انتقالية مستقلّة ومفوّضة؛ وهو ما يجعل من سياسات واشنطن تتناقض مع مصالح طيف واسع من القوى الإقليمية، وآمال وأهداف السوريين المشتركة في قيام دولة سوريّة موحّدة وديمقراطية، رغم تساوق نتائج مشروع التسوية السياسية الأمريكي مع مصالح ورؤى بعض تيّارات المعارضات السوريّة، السياسية والميليشياوية، الذين يتحكّمون بسلطات الأمر الواقع القائمة عسكريّا أو الذين ربطوا مشاريعهم السياسية بديمومتها!.
إذا كان من الطبيعي أن تتعارض خطط السيطرة الأمريكية ومشروع تسويتها السياسية مع مصالح أنظمة روسيا وسوريا، اللتين تسعيان لفرض سيطرتهما على كامل الجغرافيا السوريّة، فهي تتناقض أيضا مع سياسات تركيا، التي ترفض خاصّة استمرار سلطة ذاتية بقيادة مجموعة النخبة التي تسترشد بقيادات قنديل ؛ وقد عجزت عن إقناع واشنطن بضرورة تحسين سلوك قسد مقابل قيامها بضمان مصالحها، واستعدادها لإعادة هيكلة الميليشيات التي ارتبطت بمشروع مدّ حدود منطقتها الآمنة على حساب سلطة قسد، المرتبط بخطط مشروع إعادة توطين المهجّرين على امتداد شريط حدودي يصل إلى 32 كم!.
على أيّة حال، أعتقد أنّ موازين قوى الصراع السياسي والعسكري الراهنة تضع مآلات التسوية السياسية بين عدّة خيارات:
الخيار الممكن، وصول روسيا وتركيا والولايات المتّحدة لصفقة تسوية سياسية على حساب سلطات الأمر الواقع الجديدة، وفي سياق إعادة تأهيل سلطة النظام، وبما يضمن مصالح جميع قوى الاحتلال!.
يتضمّن هذا السياق تلبية أهم شروط تركيا بحصول صفقة بين النظام وقسد، وتحقيق بعض مصالح واشنطن التي ربطتها بوجود سلطة قسد، كما نتضمن تحييد لأوراق القوّة التركية السياسية والميليشياوية!.
يسمح هذا الخيار بإعادة تدريجية لسيطرة مؤسّسات النظام على كامل جغرافيا شمال سوريا، ويواجه رفضَ طيف واسع من المعارضات السوريّة، السياسية والميليشياوية، التي تتهدد مكتسباتها، إضافة إلى تناقضه على المدى الطويل مع أدوات السيطرة الإيرانية وأوراق قوّتها، التي راكمتها في إطار نتائج الخيار العسكري الطائفي التفشيليّة.
الخيار الأرجح، وصول تركيا والولايات المتّحدة إلى صفقة سياسية، شبه ثنائية، تضع روسيا أمام الأمر الواقع، وتتضمّن الاتفاق على آليات سيطرة مشتركة على شمال سوريا، شرق الفرات وغربه، في سياق تقويض أدوات ووسائل هيمنة قيادة قنديل على قسد، من جهة، وإعادة هيكلة ميليشيات المعارضات المرتبطة بتركيا، من جهة ثانية، لصالح علاقات متنامية مع قيادة إقليم كردستان العراق؛ مع الأخذ بعين الاعتبار بعض مصالح روسيا وإيران والنظام في جغرافيّة الإقليم الجديد ؛ وبما يعطي غطاءً ومشروعية أمريكية/تركية لإجراءات إعادة تأهيل النظام السوري على سوريا المفيدة؛ وهو الخيار الأقرب لمشروع التسوية السياسية الأمريكي من حيث نتائجه المدمّرة لمقوّمات الدولة السورية الموحّدة، لكنّه يُقاطع سياسات السيطرة التركية الأمريكية التي وضعها المشروع الأمريكي الأساسي، المستمرة جهوده منذ 2015 في خنادق متواجهة!. إيجابيات هذا الخيار وسلبياته واضحة، وتحاول نخب المعارضة العمل على تجييره لصالحها، بما امتلكته من حنكة اللعب على أجندات القوى الخارجية، والقفز على مراكبها المتحرّكة!.
الخيار الأسوأ، هو فشل الاحتمالات التوفيقيّة؛ لذهاب واشنطن إلى تكتيك المراوغة والتسويف في علاقاتها مع التركي والروسي، من أجل تعميق التناقضات في العلاقات التركية الروسية الجديدة، وشراء الوقت للدفع ميدانيا بجهود تعزيز مقوّمات الكيان القسدي، عسكرياً واقتصادياً، خاصّة عبر بوابة إقليم كردستان العراق، لوضع الجميع أمام الأمر الواقع، ورضوخهم بالتالي لإرادة واشنطن، وذهاب كلّ طرف لتعزيز أدوات سيطرته الكانتونية الخاصّة، بما يتوافق مع خطوات مسار التسوية السياسية الأمريكي الرئيسي، في مسارات اعتراف موضوعي متبادل، وتأهيل متزامن لسلطات الأمر الواقع القائمة حاليا، وبما يعزّز عوامل تفشيل سوريا سياسيّا، وتعميق تفاوت درجات معيشة السوريين في أماكن خضوعهم الحالية، وبما يؤدّي، في ظل استمرار الوضع السياسي الحكومي العام، إلى تفاقم ظروف المقيمين في سوريا المفيدة خاصّة، على جميع الصعد والمستويات!.
الحقيقة، والسلام والعدالة لجميع السوريين.