في أكاذيب نظرية المؤامرة الكونية ودعاية التراخي والانسحاب الأمريكي
أياً تكن نتائج الجولة الحالية من الصراع على “أوكرانيا”، وفيها، من الأرجح (كي لا نقول من المؤكد)، أنها لن تخرج عن سياق نهج علاقات استراتيجي، رسمته ومارسته واشنطن، طيلة سنوات ما بعد الحرب الباردة،مع شركائها في النظام الرأسمالي العالمي الإمبريالي، دون استثناء، ويقوم على مبدأ “تشارك المصالح، وتقاسم المسؤوليات”؛ وهو أيضاً أهم ما يميز سياسات واشنطن الإقليمية، وقد كانت الحالة السورية أبرز تطبيقاتها.
ما يميزه في الحالة الإقليمية أيضاً، وهو ما يجب أن يضعه الفكر السياسي الديمقراطي نصب عينه، إذا ما أرادت نخبه أن تنتج وعي سياسي مطابق لحقائق الواقع، هو تناقض مصالح وسياسيات واشنطن، وبالتالي شركاؤها الدوليين والإقليميين، مع جهد شعوب المنطقة، ونخبها، للخروج من حالة الاستبداد المعند، وفتح صيرورات الانتقال السياسي والتحول الديمقراطي؛ وما تبقى مجرد تفاصيل حول أفضل أدوات ووسائل تحقيق الهدف!!
هي رؤية سياسية ما تزال تجد صعوبة في الإقناع، وكيل من التُهم، لعدم فهم أفكارها، وتعارض استنتاجاتها مع أفكار أهم مصادر الوعي السياسي النخبوي والشعبي العام، المعارض والموالي!
بالإضافة إلى بقايا الأيديولوجيات القومية واليسارية:
1- دعاية “المؤامرة الكونية”، التي يروج أصحابها لظهور تناقضات جوهرية داخل النظام الرأسمالي العالمي الإمبريالي، وبروز أقطاب متناحرة، على غرار حقبة الحرب الباردة، تضعهم في الخندق المقاوم لسياسات واشنطن وشركائها، الذين يتحملون بالتالي مسؤولية الحرب الكونية ودعم أدواتها الإرهابية، وكل ما تتعرض له سوريا من تجويع وحصار ومؤامرات !!
في الهدف الحقيقي المركزي لهذه الدعاية، يأتي ضرورات التستر على حقائق الصراع، وعوامل سياقه التاريخي، التي تؤكد تقاطع المصالح والسياسيات بين حكومات مراكز النظام، وقيادته الأمريكية، وبين سلطات الأنظمة الإقليمية، من جهة أولى، مع سلطات “المقاومة” من جهة ثانية، في سياق مواجهة استحقاقات الربيع السوري، وما نتج عنه من تنسيق الجهود المشتركة، وأدى إليه من إنزال هزيمة تاريخية بأهداف المشروع الديمقراطي للشعب السوري.
2- دعاية “الانسحاب والتراخي” الاستراتيجي الأمريكية، التي تكاملت أفكارها مع دعاية “المؤامرة الكونية”، في تأكيدها على ظهور أقطاب متصارعة، وترويج أبواقها لانسحاب أمريكي شرقاً، لمواجهة “الصعود الصيني” في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وما نتج عنه من “فراغ استراتيجي”، استغلته موسكو للقفز إلى المنطقة، (الباحث في مركز واشنطن، الدكتور سمير التقي!)، وتحقيق حلم قديم بالوصول إلى المياه الدافئة!؟.
إضافة إلى ما تسعى إليه لتغييب واقع التنسيق المباشر بين الولايات المتحدة وروسيا في قيادة أنشطة “الثورة المضادة” للتغيير السياسي، ودعمها المباشر لجهود منع حدوث انتقال سياسي، وما ينتج عنه من أوهام وقوف الولايات المتحدة في صف الشعب السوري، تؤدي إلى تعميق تفتيت النخب، وتبرير تساوق ممارساتها مع سياسات واشنطن، وارتهانها إلى هذا الطرف أو ذاك من تحالف قوى عدو واحد، كأفضل سبل لتغييب دورها الوطني وتعزيز عوامل هزيمة أهداف التغيير السياسي، تسعى الدعاية الأمريكية إلى تبرئة الإدارات الأمريكية، ورفع مسؤوليتها عن دعم الخيار العسكري، وما ينتج عنه، وتحميلها لبوتين، (الانتهازي، الذي استغل انشغالها في مواجهة الصين لترسيخ مواقعه في سوريا بالتحالف مع النظام وشريكه الإيراني!)، ولا ضير على شريكه بوتين في ذلك، طالما يفاخر بفاعلية سلاحه في الحرب، وطالما يضمن له نظامه “غير الديمقراطي”، الديماغوجي، حصانة سياسية وقانونية، تعفيه من مواجهة عواقب سياساته بما يتيح استمرار الخيار العسكري الطائفي حتى تحقيق جميع أهدافه، ويمنع قيام حل سياسي، بالطبع!.
مع الأسف، لقد شكل هذا “الهراء الاستراتيجي” وما بني عليه من وجود خلاف روسي – أمريكي حول قضية الصراع المركزية، الانتقال السياسي، وحول دعم الولايات المتحدة لمسار حل سياسي، وحقوق الكرد القومية، ومحاربتها لبعض قوى الثورة المضادة، الذي يتناقض مع حقائق الصراع، في أسبابه وقواه ومراحله ومآلاته، بوصلة التحليل السياسي النخبوي، وما يزال، رغم ما نتج عنه من تهميش دور النخب السياسية والثقافية، وإضعاف فرص تشكيل جبهة وطنية معارضة، وبالتالي واقعية مبرر دعم الولايات المتحدة لبقاء الوضع القائم، طالما لا يوجد بديل، كما يؤكد المسؤولين الأمريكان، رغم كون سياساتهم المنافقة السبب الأساسي لعدم قيامه!.
دون أن يخرج الفكر السياسي النخبوي السوري عن دوائر هاتين النظريتين، وما تروجان من أكاذيب، (في الواقع، نظرية واحدة، تهدف إلى تغييب الحقائق!)، لن تتمكن عقول وأقلام نخبه من إنتاج وعي سياسي مطابق، يشكل الخطوة الأولى لإعادة توحيد الرأي والموقف، كخطوة مهمة على طريق التغيير!.