في أبرز مظاهر حالة المأزق النخبوي الكوردي
تماماً كما استغلّت نخب سياسية وعسكرية عربية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مشاعر العرب القومية وتوقهم للتحرر والدمقرطة وبناء دولة العدالة والمساوة، للقفز على السلطة، وتجييرها لخدمة مصالحهم الخاصّة وبما يتقاطع مع مصالح أصحاب مشاريع السيطرة الإقليمية والدوليّة ويعزز شباك نهبها، كان من الطبيعي أن تصل إلى الحالة الكارثية التي نعيشها اليوم، تحاول بعض النخب الكوردية استغلال مشاعر الكرد، وحقوقهم القومية المشروعة، وما يبدو لهم، نتيجة إصراراهم على عدم رؤية حقائق الصراع، وأهمّها الشراكة الأمريكية – الروسية في حروب الثورة المضادة، من وجود “فرصة تاريخية لتحقيق الحلم القومي الموعود، (تكتيك انسحاب “حكومي” مؤّقت، وتجيير إقليمي وإمبريالي للكرد وغيرهم، لتفشيل اهداف المشروع الديمقراطي لجميع السوريين)، لتحقيق مصالح خاصة، على حساب دماء الكرد وحقوقهم بالدرجة الأولى، وبما يدّمر مقوّمات الدولة الوطنية السورية؛ رغم إدراك معظم الذين يدغدغون مشاعر “الدولة القومية الكوردية” استحالة تحققها تماماكما استحال تحقق “الدولة القومية العربية”، رغم سيطرة “قوى القومية العربية “على سلطات أنظمة الدول العربية!
ولا تعود أسباب الاستحالة لعامل واحد، داخلي، مرتبط بسيطرة انظمة استبداد معادية لحقوق الشعوب وأمالها، و ظروف التوزّع الديمغرافي والجغرافي للكرد السوريين، فحسب، بل وبفعل سياسيات ومصالح خارجية، شكّلت أهمّ العوامل الإقليمية والدولية.
على أيّة حال، رغم ما يبدو من تعارض شكلي، لا يختلف ما تقوم به النخب “القومية” عن سلوك نخب “الإسلام السياسي” (أمّا التّيارات “الشيوعية”، التي امتطّى معظم نخبها صهوة الحصان الديمقراطي أو الليبرالي، فما تزال تعيش في أبراجها الخاصّة، وعلى كواكب أخرى)، التي تستغّل تنوّع الانتماءات المذهبية، والعقلية الدينية، ومشاعر المؤمنين، لتحقيق مصالح سياسية انتهازية خاصة، على حساب الجميع !!
ليس غريبا أن يتجاهل هؤلاء- ومعظمهم من نزلاء أوروبّا و”ضيوفها” أو “أصدقائها”، وعلى دراية بآليات النموذج الاوروبي لحلّ مشاكل الشعوب المزمنة، أهم دروس الوحدة الاوروبية، التي تقول إنّ السبيل الواقعي الأنجع لإيجاد مخرج لمشاكل جميع شعوب الإقليم، في سوريا والعراق وإيران وتركيا، وفي مقدمتهم الكورد، وحقوق تقرير المصير هو نموذج الدولة الديمقراطية الوطنية، الذي يُتيح فرص الوحدة الإقليمية، بين انظمة ديمقراطية، تحترم خيارات شعوبها، على غرار الوحدة الأوروبية!!
يتجاهل هؤلاء المثقفين، ومعظمهم يعمل تحت يافطات ديمقراطية، أنّ العمل على بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية الوطنية هو الخطوة الأولى لتعميم النموذج إقليميا، وإزالة جميع الحواجز، التي تحميها مصالح وسياسات انظمة معادية للديمقراطية وحقوق الإنسان وتُعيق تفاعل الشعوب وتواصلها على جميع المستويات، وأنّ ما يروجّون له يتعارض مع مصالح الجميع، ويمنع تحقق أهدافهم الخاصّة والعامّة؛ ناهيكم بما يولّده، في ظل استمرار الصراع، وتعمّق الحواجز بين الخنادق المتواجهة، إلى تأجيج مشاعر الحقد والتعصّب، وهي قنابل موقوته، قد تنفجر باي وقت، ويستغلّها أيّ طرف؟.
فبناء مؤسسات الدولة الديمقراطية الوطنية، بدءاً بخطوة الانتقال السياسي، هو المسار الوحيد لمعالجة جميع قضايا الشعوب، التاريخية والراهنة، ومن أجل تحقيقها، يجب العمل على توحيد جهود جميع السوريين، وليس توزيعه على قنوات تفتيتيّة، قوميّة أو مذهبية.؟!
ليس المجال هنا للتدليل على صحّة ما تذهب إليه الفكرة الأساسية في المقال، حول استغلال مشاعر الكورد وحقوقهم القومية المشروعة لتجييش السوريين على ارضية مشاعر قومية متناقضة، فقط لتحقيق اهداف نخبوية خاصة، رغم تقاطعها، بالنتيجة، مع وسائل تفتيت الصف الوطني التي يستخدمها جميع المتورطين في الصراع. فقد أصبحت اشكال الترويج المختلفة لتناقض مزعوم بين هويّة الكرد الخاصّة وبين الهويّة الوطنية السورية، ولعجز دولة المواطنة الديمقراطية عن تلبية مطالب الكرد القوميّة، وتحميل “العرب” عموماً، وليس أنظمة الاستبداد، مسؤولية المظالم التي تعرّض لها الكرد خلال المراحل المتعاقبة لسيطرة “البعث”، وما قامت به سلطاته من ممارسات شوفينية، وربط مفهوم “حق تقرير المصير” بحقّ الانفصال عن الدولة السورية…، أهمّ اولويات، وأبرز عناوين النشاط النخبوي المعارض!
يبدو لي أنّ المأساة السورية أسوأ مما يعتقده أكثر المراقبين تشاؤماً، ليس فقط بسبب بنية سلطة النظام وآليات سيطرتها الطبقية وهيمنها السياسية، وتداخلها مع شبكة معّقدة من شباك النهب والسيطرة التشاركية الإقليمية والدولية، وما وصلت إليه مقوّمات الدولة السورية من تهميش، فحسب، بل ما نتج عن هذه الصيرورة المستمرة طيلة عقود من انفصال الوعي السياسي النخبوي عن الواقع، وحقائق الصراع، وتحوّل تركيز القيادات النخبوية، السياسية والثقافية، على قضايا خاصّة، تُعيق تنسيق الجهد الوطني السوري، وتمنع تحوّله إلى اداة فعل، قادرة على فرض مصالح السوريين، ودفع الصراع على مآلات الانتقال السياسي، والتغيير الديمقراطي!
ما تقدّمه النخب على صعيد الوعي والفكر والممارسة، ويؤدي إلى إضعاف الجهد الوطني العام، ويمزّق صفوفه، لا يصبّ في خدمة أدوات وقوى شراكة النهب والسيطرة، محليّاً وإقليميّاً ودولياً فقط، بل ويزيد من اغتراب النخب عن واقعها، ويعمّق الفجوة مع عموم السوريين، ويفقدهم بوصلة النضال الوطني، السياسية والثقافية؛ وهو ما يفسّر أحد اسباب المأزق التاريخي الذي يعيشه الجميع، سلطات وأنظمة وشعوب ونخب، ويهدد مقومات الدولة الوطنية!!