فوضى ليبيا: محاولات لدفع مصر نحو الهاوية
لم يستطع العرب خلال العقود الفائتة، بلورة مفهومٍ مُتّفَقٍ حوله، بخصوص الأمن القومي العربي، فحتى قضية فلسطين التي كانت مركزيةً في يوم ما، انحازت بعض الأطراف العربية إلى الضدّ منها تماماً، وأصبحت المركزيّة فيها تتمثّل في تعزيز الارتباط مع العدو الأول “إسرائيل”، في حين كان آخرون، وعلى رأسهم نظام الأسد الأب، يعزّز من ارتباطه مع العدو الآخر “إيران”، في مناكفة مع العراق، ومع العالم العربي، قبل أن يتوسّع هذا النهج، مُشكّلاً بيئةً جاذبةً للاحتلال الإيراني.
هذه الصورة العربية، قامت عليها أربع قوى رئيسة، كانت المُتحكِّم في المشهد العربي: مصر والعراق وسورية، والتحقت بهم السعودية لاحقاً بثقلها الديني والمالي قبل العسكري المتأخر.
لكنّ الصورة ستتغير كثيراً منذ عام 1990، ليتمّ إقصاء العراق نهائياً عن الفاعلية العربية، بل وتحويله إلى منطقة صراعٍ واحتلالاتٍ أجنبية، وأُلحِقت سورية بهذا الإقصاء النهائي، فيما تنشغل السعودية عسكرياً باستنزافٍ طويلٍ منذ خمس سنواتٍ في اليمن، عدا عن اضطراباتٍ سياسيةٍ تتعلّق بإعادة إنتاج السلطة والدولة وهويتها ومجتمعها وثقافتها، في ظلّ ضغوطٍ ماليةٍ باتت تزداد حدّة.
ورغم ما يعانيه الجيش المصري، من ترهّلٍ وإشغالٍ داخليٍّ في قضايا غير عسكرية، عدا عن ارتباطه بالدعم والتمويل الخارجي، وفساد كثيرٍ من قادته، إلّا أنّه يبقى القوّة العربية الأخيرة بين القوى الفاعلة التقليدية/الكلاسيكية، ولم تنجح محاولات توريطه في عمليات فصلٍ عسكريٍّ في سورية أو سواها، ولم تنجح كذلك محاولات توريطه في “حلف ناتو عربي” بحيث يكون رأس حربةٍ في مواجهة إيران عوضاً عن دول الخليج، كما لم يكن بالإمكان إقناع قادة الجيش المصري بالمشاركة العسكرية في اليمن “عاصفة الحزم”، رغم التمويل الخليجي الكبير المتاح لمصر، وهو ما يؤكّد النظرية التقليدية بأنّ الجيش المصري لم يكن يوماً جيشاً مُرتزقاً، وإنما يشتغل وفق صيغةٍ مصريةٍ من المصالح الخارجية.
لكن يبدو أنّ هذه الصيغة يتمّ الاشتغال على تعديلها/تفكيكها من داخلها، بحيث يتمّ دفع مصر نحو مشاركةٍ مباشرة في الفوضى الليبية المستمرة منذ عقد (هناك مشاركةٌ غير مباشرةٍ منذ سنوات). ورغم أنّ أمن ليبيا هو قضيةٌ أمنيّةٌ عليا لمصر، ومن المفترض أن تكون حاضرةً فيها، لكن غياب مصر المباشر لعقدٍ كامل، أتاح فراغاتٍ استراتيجيةً سمحت لقوى أخرى بالحضور والفعالية. وبالتالي لا يمكن فهم سياق الحضور المصري المتأخّر جداً، بعد أن امتلأت الساحة الليبية بكثيرٍ من القوى، إلا ضمن سياق المحاولات السابقة في جرّ مصر إلى نزاعاتٍ طويلة الأمد.
يأتي ذلك في توقيتٍ تُحاصَر فيه مصر على مستوى الأمن المائي، وهو ما سيُشكِّل لها تهديداً حقيقياً خلال سنواتٍ قليلةٍ قادمة، ويجعل مصر رهينة المصالح الإثيوبية، ما قد يُجبرها على إحداث تغييرٍ كبيرٍ في سياساتها في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا. هذه المحاصرة تشارك فيها قوى عديدة، على رأسها حلفاء مصر العرب، الذي يموِّلون نهوض الاقتصاد الإثيوبي بكلّ تفاصيله (المستثمرون الكبار).
أي أنّ مصر، باتت اليوم، وبدفعٍ وتشجيعٍ من حلفائها العرب، أمام تحدّيين بالغيّ الحدة، وفي وقتٍ واحد، بمعنى أنّ هناك سعياً حثيثاً لإشغال مصر وإخراجها هي الأخيرة من معادلات القوة العربية، وبشكلٍ نهائي، وعلى جبهتين معاً: ليبيا وإثيوبيا، عدا عن أنّها أساس في حالة إشغالٍ طويلةٍ في جبهتها الشرقية مع الإرهاب ومع شواغل أمنيةٍ واستراتيجيةٍ تبقى حاضرةً بخصوص إسرائيل.
فعلياً، تمّ إشغال مصر منذ سنواتٍ طويلة، لكن النتائج كانت متأخرةً قليلاً، ونلحظ انخفاض فعالية مصر التدريجية في الشأن الإقليمي، وهي التي كانت قاطرة السياسات الخارجية الإقليمية، ووصل حدّ انخفاض هذه الفعالية، إلى شبه غيابٍ عن التغيير الذي قام في السودان عام 2019، رغم أهميّته الأمنية لمصر، في وقتٍ كانت إثيوبياً حاضراً وعرّاباً ومؤثّراً في ذات القضية.
إشغال مصر، طويل الأمد، وربّما النهائي، هو ما سيسمح ببروز قوى عربيةٍ صغيرةٍ وبالغة الصغر في المشهد العربي (القوى الجديدة)، وتحكّمها بمفاصل المشهد، باعتبارها القوى العربية الوحيدة التي باتت متاحة، وهي قوى وظيفيّةٌ ذات مشاريع تفكيكيّةٍ لكل الدول العربية، ترتبط مباشرةً وعلناً بالمشاريع الخارجية المضادّة لفكرة الأمن القومي العربي (وتحديداً إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا، ثم إيران).
بالعودة إلى الملف الليبي، فإنّ أمام مصر كثيرٌ من التحدّيات التي نرى فيها إشغالاً طويل الأمد لها، وعلى رأسها:
– دخول مصر العسكري، هو دخولٌ منفرد، فليس لدى حلفائها الخليجيّين قدرةٌ على إرسال قوّاتٍ للمشاركة مباشرة في هذه العملية (لأسباب عديدةٍ، منها عدم امتلاكها هذه القوات، وانشغال القوات الخليجية المحدودة بعاصفة الحزم)، إلا إنْ كانت هذه الدول ستوفّر حشوداً من المرتزقة كقوّاتٍ رديفةٍ للقوّات المصرية، وهو أمرٌ فيه كثيرٌ من الخطورة من جهة، عدا عن أنّ النمط المصري السابق كان يشتغل وفق منهج تمويل ميليشياتٍ ومرتزقة.
– الثانية، أنّ مصر تدخل وفق وعودٍ بتمويلٍ مفتوحٍ وطويل الأمد (وعودٍ احتفاليّة)، وهو أمرٌ يُفترض النظر فيه كثيراً، في ظلّ الاضطراب الاقتصادي المالي العالمي، وتأثيره السلبي في اقتصاديات الخليج، وخصوصاً أنّ السعودية تقع تحت إعادة هيكلةٍ اقتصاديةٍ حادّة، عدا عن أن الاقتصاد الإماراتي غير مستقرٍ من جهة، وغير قادرٍ على تحمّل كلفة تمويل تدخّل الجيش المصري في ليبيا لفترة متوسطة. وهنا يجب الحذر من احتمال توقّف التمويل مبكراً، في وقتٍ لا يمكن فيه سحب القوات من الأرض.
– الثالثة، أنّ النزاع في ليبيا، هو نزاعٌ/تنافسٌ دولي، وليس نزاعاً أهلياً يمكن إدارته بضبطٍ إقليمي، فهناك تركيا وفرنسا وإيطاليا، والولايات المتحدة وروسيا، وسواهم. أيّ أنّ مكاسب مصر، ستبقى محدودة، في ظلّ وجود أطرافٍ أكثر فعاليّةً وقوة، وهي المتحكّم الحقيقي في المشهد الليبي.
– عدا عن أن الدفع الخليجي، لا يهدف في أساسه إلى حماية أمن مصر، أو بناء صيغةٍ جديدةٍ من الأمن القومي العربي. إنّما هو في شقّه الأول، مواجهة تركيا وقوى الإسلام السياسي (أي دفع مصر لأن تخوض حرباً بالوكالة)، ما يقود إلى الشق الثاني المتمثّل في إشغال مصر طويل الأمد وربّما النهائي.
– عدا عن أن هذا الدفع بمصر، لا يترافق مع حمايةٍ خليجيةٍ للأمن المصري في ملفّاتٍ أخرى، ونقصد بها وأهمها، ملف سد النهضة المُموَّل خليجياً.
– عدا عن أنّ هذا الإشغال طويل الأمد، سيكون عائقاً لمشروع التنمية المتعثّر في مصر من جهة، ومحاولةً لتعزيز شرعية السلطة بأدواتٍ خارجية، عوضاً عن استحقاق الإنجاز والتنمية داخلياً.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”