fbpx

فتّش على الحرامي.. كش ملك

0 417

اعتاد الإعلام العربي، وكذلك وسائله التعليمية على صناعة الأوثان وتأليهها لتصل بالإنسان إلى درجة الشرك بالله. حتى إذا مست الوثن سياط النقد، ودعت إلى محاسبته، انبرى الوثنيون الجدد للدفاع عن معبودهم من دون الله، فيقومون بتنزيهه ووضعه على عرش لا يمسّه خطأ ولا تدانيه مسؤولية. 

ننظر حولنا فنرى الفساد وقد استشرى وطال معظم جوانب الحياة من حولنا، فيسارع الموالون إلى الدفاع عن معبودهم ليلصقوا كل التهم بمن حوله، فالبطانة هي الفاسدة، والمجتمع غارق في الذنب حتى أذنيه، أما الملك – الرئيس – القائد – الوثن، فهو منزّه عن الخطأ. وهذا واضح حتى في الألعاب الشعبية المتداولة. 

هناك لعبة كنا نلعبها في طفولتنا، في كل أنحاء سوريا، اسمها: مين المفتش؟

تحتاج هذه اللعبة إلى أربعة لاعبين، كما تحتاج إلى عدد من الأوراق الصغيرة. 

يسجل على كل ورقة لقب من الألقاب التالية (ملك، مفتش، جلاد، حرامي)، وتطوى الأوراق بحيث لا تظهر الألقاب المكتوبة عليها، ثم يمسك أحد اللاعبين بالأوراق ويخضها ثم يرميها على مكان اللعب ثم يختار كل لاعب من اللاعبين ورقة ويفتحها. فيقول الذي اختار الورقة المكتوب عليها الملك: مين المفتش. فلما يقول المفتش: أنا المفتش. يقول الملك: فتش لي على الحرامي. فيختار المفتش أحد اللاعبين ما عدا الملك ليكون الحرامي. إذا أصاب باختياره ضرب الجلاد الحرامي عدداً محدداً من الجلدات بالمقرعة مثلاً. وإذا أخطأ المفتش ضربه الجلاد ذلك العدد من الجلدات. ويعاد طوي الأوراق وتعاد إلى مكان اللعب ليمسكها أحد اللاعبين ويرميها ثانية وهكذا…

إذن الملك مستثنى من أية تهمة، بينما يحمل الباقون أوزار الخطايا. هكذا تعلمنا من الصغر، وهكذا يشاع في إعلامنا وفي كتبنا المدرسيّة لتترسخ تلك الفكرة في أذهاننا، ونستكين. 

مشايخ السلطة يكررون الفكرة نفسها على المنابر صباح مساء، داعين للرئيس بأن تكون حوله بطانة صالحة، أو تصلح بطانته، منزّهين إيّاه عن كل سوء.

السلطة السورية تسير على النهج نفسه، فتصادر الأموال والبيوت، وتتهم الجميع بالفساد والمحسوبية ولا تقرب من رأس الهرم، علماً بأن الشائع في النظافة أن يتم (شطف الدرج من الأعلى للأسفل). ومعلوم أن الخط الأعوج من الثور الكبير، وما الثيران الصغار سوى أتباع له. وكذلك يقال: إن الناس على دين ملوكهم، فإذا أردنا إصلاحاً، لابد أن نبدأ من الرأس.

والمشكلة في سوريا أن الرأس لم يعد سوى ذيل لإرادات دول أخرى، ينفّذ مخططاتها، ومع ذلك، بقي الوثن الشكلي قائماً لدى الموالين الذين يظنّون أن سيّدهم يملك الكلمة والفعل فيما آلت إليه الأوضاع في سوريا. 

منذ أعوام كشفت بعض الوثائق عن التضامن الوثيق بين المال والسياسة في سوريا، وبيّنت أن رامي مخلوف وكثيرين أمثاله ما هم إلا وكلاء عند رأس السلطة، يتقاضون عمولات كبيرة على تسهيل تحويل أموال الدولة السورية إلى بنوك أجنبية باسم الأسد وعائلته. لم يكن الشعب السوري بحاجة تلك الوثائق لمعرفة حقيقة لصوصية الحكم في سوريا، بل من المعروف أن عائدات البترول تودع في رصيد آل أسد من غير أن تمر بقنوات الحكومة السورية، ومن غير أن تدخل في الميزانية. 

إن آخر انقلاب تم في سوريا كان بتخطيط المجلس العلوي الأعلى بمساندة قوى خارجية مخابراتية أبرزها بريطانيا التي احتوت حافظ الأسد وزرعته في رأس الهرم لينفّذ مخططات الاستعمار الجديد، المبطّن. 

بنى الأسد الأب السلطة على الفساد، بحيث تكاتف العسكر مع عالم المال والتجار الجشعين، وأنشؤوا مافيات لصوصية تسطو على الثروة العامة بغطاء من قوانين سنّها الأسد بانقلابه الثاني الذي سماه الحركة التصحيحية. فكانت تصدر قرارات حكومية مفصلة بشكل خاص لخدمة مشروع يستفيد منه أحد أقطاب النظام، ويدفع الأتاوات لمن يسن تلك القوانين. ثم تطور الأمر فصارت الأجهزة الأمنية فوق القوانين، وراحت تسطو على الأملاك والشركات بقانون القوة.

الشركات العامة كانت دائماً خاسرة، بسبب السرقات التي يقوم بها مدراؤها الذين تعيّنهم السلطة، وبعد استشراء الفساد فيها، كانت تشكل لجان التحقيق من قبل اللصوص أنفسهم، فيستفيدون مرة أخرى من بقايا تلك الشركات قبل أن تصادرها الأجهزة الأمنية وتحوّل أموالها إلى آل الأسد. إن الأسد وأقربائه سرقوا الموارد السورية وسيطروا على الاقتصاد وعملوا في تبييض الأموال وتهريب المخدرات والآثار السورية.

حين فاض الكيل، انتفض السوريون في ثورتهم مطلع 2011م فثارت ثائرة بشار الأسد الذي ورث سورية مزرعة من أبيه. كيف يمكن أن يتمرّد عليه من يعدّهم غنماً لديه وجزءاً من التركة التي جاهد أبوه ليحوزها. وهكذا كان الرد عليهم بالحديد والنار والبراميل المتفجرة. 

لقد وضعت الأجهزة الأمنية شعار “الأسد أو نحرق البلد” وقامت بتنفيذه حرفياً، بل تمادت في طلبها فهي تريد الأسد بعد أن تحرق البلد. ولم تكن تلك الفئة اللصوصية الحاكمة لتصمد أمام إرادة الشعب، لولا تدخل القوى الخارجية التي يهمها الإبقاء على الدول العربية ضمن حظيرة رسمتها الدول العظمى. 

من المعلوم أن بشار الأسد غير مؤهل لاستلام أي سلطة، وكل من حوله من حكومات متعاقبة ومجالس الدمى، غير مؤهلين لإدارة دولة، فما هم سوى عصابات مافيوية تحكم بقوة العسكر مستعينة بإيران التي تسعى جاهدة لتنفيذ مشروعها الصفوي عبر بوابات سوريا والعراق ولبنان، وروسيا التي تقارع أمريكا من خلال الشرق الأوسط، وتحاول رتق خروقاتها الداخلية بافتعال حروب خارجية، والسيطرة على موارد سوريا الغنيّة.

الآن، بعد كل تلك السنوات العصيبة، لم يعد السؤال غامضاً: فتّش عن الحرامي. الحرامي هو الملك، يسانده المفتّش، ويدعمه الجلّاد. الآن لابد من إسقاط الحرامي والبحث عن ألعاب جديدة تناسب العصر وتساعد في تنمية الوعي الشعبي لنحرص على نيل الحرية وتحقيق الكرامة الإنسانية، بالرغم من حكم الأجهزة الأمنية وقوة العسكر، وبالرغم من إرادات دول الغرب التي تدّعي حرصها على حقوق الإنسان، في حين أنها تساند الشيطان الواضح وضوح الشمس.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني