فتنة خطاب الكراهية والحصاد المر
تحدثنا في المقال السابق عن دور المعارضة التركية في نثر بذور الكراهية تجاه كل ما هو أجنبي داخل تركيا، وعلى وجه الخصوص السوريين، بعد أن تم تحميلهم مسئولية المشاكل اليومية التي يعانيها المجتمع التركي، سواء تلك المرتبطة بالتطورات العالمية، أو التي ظهرت نتيجة المؤامرات التي تتعرض لها تركيا من جانب قوى دولية وإقليمية تكره أن تراها نموذجا يطمح البعض إلى تطبيقه في بلادهم.
إلقاء تبعة كافة تلك المشاكل على كاهل السوريين، جعل الاتراك يرون أن الحل السحري لإنهاء كافة أزماتهم، والتخلص من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي أصبحوا يعانونها يكمن في إعادتهم إلى بلادهم، وفق ما طرحته قوى المعارضة في خطاباتها العدائية.
ليجد الحزب الحاكم نفسه وقد خسر جزءا لا يستهان به من شعبيته في محافظات لطالما كان دوما صاحب اليد العليا فيها، حيث افرزت الانتخابات البلدية الأخيرة واقعا مريرا، محصلته خسارة بلدياته الكبرى أنقرة وإزمير وأضنة، لتأتي عقب ذلك الطامة الأكبر بالخسارة الفادحة التي تلقاها بفقده إسطنبول، أكثر المحافظات التركية سكانا، وأكبرهم تأثيرا على الصعيد الاقتصادي. المدينة الرمز ذات المكانة التاريخية المميزة، التي تجسد في تاريخها وحاضرها كل ما يحلم به العدالة والتنمية، ويطمح لتحقيقه من انتصارات مستقبلية، داخلية وإقليمية بل وعالميا
ليُجبَر الحزب على مسايرة الوضع، والانخراط في تبني سياسات اتسمت بالحدة والعنف تجاه كل ما هو سوري، على الأقل داخل المدن الكبرى التي خسرها، في محاولة استهدفت امتصاص غضب الجماهير، واستعادة شعبيته المفقودة، والتصدي لأحزاب المعارضة وتفويت الفرصة عليهم في استقطاب المزيد من شرائح المجتمع التركي.
ولتحقيق تلك الأهداف، بالغت بعض القرارات التي تم اتخاذها في قسوتها، دون مراعاة للأبعاد الإنسانية لها. قسوة بلغت حد التعنت في بعض الأحيان حتى من جانب القائمين على تنفيذها، حيث تم الإعلان عن خطوات محددة بهدف ترحيل السوريين إما إلى المحافظات التي استخرجوا منها إقامات اللجوء، وهي غالبا محافظات حدودية صغيرة لا مجال للعمل أو العيش فيها، أو إلى الشمال السوري، في تلك المناطق التي تم تطهيرها من الجماعات الإرهابية، ويسيطر عليها الجيش التركي.
عناصر الشرطة التركية سارعت بالانتشار في المناطق التي يتجمع فيها السوريين، وقامت بحملات مداهمات للتدقيق في الإقامات وتراخيص العمل التي بحوزتهم، كما بدأت عمليات توقيف للأجانب في الشوارع والأزقة، واعتقال من يثبت انه سوري ويحمل إقامة لإحدى المحافظات الحدودية، حيث يتم ترحيله فورا إما إلى تلك المحافظة أو إلى الشمال السوري، دون السماح له بالتواصل مع ذويه.
التعنت في تنفيذ القرارات، أظهر رغبة دفينة في التخلص من هذا الحمل الذي أصبح عبئا ثقيلا لم يعد هناك مجالا للقبول باستمراره، فلم يتم منحهم مهلة محددة لتقنين أوضاعهم، أو العمل على تصحيح الأخطاء التي ارتُكبت بحسن نية من أجل الإسراع في الحصول على بطاقة إقامة تسمح لهم بالتنقل والعمل بحرية، فقد كان الأهم هو الحد من وجودهم في الشارع بأي ثمن إرضاءً للمواطنين الاتراك.
الإصرار الرسمي على سرعة تنفيذ القرارات، والأسلوب الذي تم اتباعه عند تنفيذها جاء متسقا في مجملة مع خطاب الكراهية المقيت الذي حملت لوائه وروجت له أحزاب المعارضة اليسارية والقومية ضد الوجود السوري، وكأن الحزب الحاكم يُزايد عن طريق تلك الممارسات وسرعة العمل على تنفيذها على المعارضة تحقيقا لهدف واحد فقط، ألا وهو استعادة شعبيته المفقودة.
وخلال تلك المزايدة، وتصاعد حدة الصراع إرضاءً لشرائح المجتمع الغاضبة، غض الجميع طرفهم، وتجاهلوا تماما حجم مساهمة اللاجئين السوريين في عجلة الاقتصاد التركي، تلك المساهمة التي ساعدت دون شك في تخفيض حجم البطالة بين الاتراك قبل السوريين، وفي الدفع بالكثير من الأموال السورية للاستثمار داخل تركيا، بل وفي زيادة حجم الصادرات التركية.
إذ كشفت دراسة أجراها اتحاد الغرف التجارية والصناعية التركية أن عدد المصانع والشركات التي أسسها سوريون في تركيا تجاوز العشرة آلاف شركة على مدي تسع سنوات، تتوزع أنشطتها على كافة القطاعات الاقتصادية، وأن هذه الشركات اتاحت فرص عمل لحوالي 44 ألف سوري من المقيمين في تركيا، إلى جانب العاملين بها من الاتراك.
ووفق دراسة أخرى أجرتها ” مؤسسة أبحاث السياسة الاقتصادية التركية ” ومقرها أنقرة، فإن 22% من الشركات التركية موجودة في الجنوب وجنوب شرق تركيا بمحاذاة الحدود السورية، وأن 55.5% من هذه الشركات تركز في مبيعاتها على الأسواق الخارجية.
وقدرت الدراسة مساهمة السوريين في الاقتصاد التركي بما يزيد قليلا عن النصف مليار دولار، بالإضافة إلى فرص العمل التي وفرتها للعمال الاتراك والسوريين على حد سواء.
فهل يشفع للسوريين انهم قدموا لتركيا واقتصادها الكثير، وساهموا قدر استطاعتهم في الحد من التداعيات السلبية للحرب التي تواجهها، وانهم لم يكونوا يوما عبئا عليها، ولم يزاحموا الاتراك على لقمة عيشهم، وانهم في مقابل استقبالها لهم كلاجئين وما قدمته لهم من خدمات وما وفرته لهم من أمان وطمأنينة، نشطوا في خلق فرص عمل جديدة لهم وللأتراك دون تفرقة، وقاموا بضخ كل ما بحوزتهم من أموال في عجلة اقتصادها، مما كان له تأثيرا إيجابيا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا على الحياة بها.
آلا يكفي هؤلاء اللاجئون ما يعانونه جراء بعدهم عن ديارهم، وافتقادهم للأهل والأصدقاء، وشوقهم لعبق تراب وطنهم، حتى يزايد عليهم البعض، ويستغلهم في قضية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، مضيفا لمعاناتهم بُعدا جديدا من خلال خطاب الكراهية الذي من شأنه تأجيج نيران العنصرية، وإشاعة البغضاء والضغينة بين شعبين جارين، لهما تاريخ مشترك، وحضارة مشتركة، خطاب إذا ما استمر سيكون نتاجه حصادا مراً على الجميع، مرارة لن يتحملها أحد لا حاضرا ولا مستقبلا.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”