غياب النقد وسيادة التشهير
نشهد منذ فترة طويلة نسبياً تراجعاً فكرياً وثقافياً مقلقاً وخطيراً، يتمثل في شبه اندثار الخطاب النقدي لصالح طغيان الخطاب التشهيري. وهو ما تدعمه العديد من المنصات الإعلامية الكبرى منها والصغرى، التي تسارع إلى نشر أي مادة إعلامية أو ثقافية تتهجم على آخرين غير محسوبين على ذات المحور السياسي الداعم لهذه المنصة أو تلك. فالغرض الوحيد من هذا النشر هو تشويه سمعة الطرف الآخر بغض النظر عن مدى صحة الموضوع، وبغض النظر كذلك عن مدى توافقه مع القيم والمعايير المهنية الإعلامية والثقافية. لذا ندرت المواد النقدية الجدية التي تحاجج الفكرة بالفكرة، والتي تعارض التوجه السياسي بتفنيد أسسه الأخلاقية والسياسية والإنسانية، وعرض توجه بديل ذي مضمون قيمي أعلى أو أفضل بحده الأدنى.
ويعزى توغل هذه الظاهرة اليوم إلى تضافر ثلاثة عوامل مركزية، تتمثل الأولى في تدهور القيمة والقيم الثقافية عربياً، وتحولها إلى مصدر استرزاق بحت بغض النظر عن المضمون الفكري، لذا تحول العمل الثقافي والإعلامي من عمل منتج فكرياً إلى ممارسة تسترضي مزاج الممول. فبهذا النوع من الأعمال يهمل المضمون لصالح الشكل الفج والمباشر، فلا مكان هنا لأنصاف الحلول أو حتى لتجميل الحقائق، بل أنت أمام خيارين لا ثالث لهما إما الخضوع الكامل والمطلق لتوجهات الممول، أو عليك البحث عن مصدر نشر وعمل آخر. وبالتالي غاب النقد، فالنقد عمل فكري وبحثي وثقافي مرهق ذهنياً وجسدياً لا يكترث به الممول النفعي، في حين أن التشهير بالآخر المخالف والمتخالف مع الممول هو بضاعة رائجة ومطلوبة، فالممول لا يكترث بمدى صحة التشهير ولا حتى بانعكاساته الأخلاقية والسياسية والاجتماعية بقدر ما يعنيه فقط التشويش على منافسيه أو خصومه، وياحبذا لو تحول التشويش إلى صفعة مدوية تنحيهم عن ساحة التنافس والصراع السياسي ظاهراً والاقتصادي باطناً.
في حين يتمثل العامل الثاني في خواء محاور المنطقة من حيث القيم الإنسانية والحضارية عموماً، حيث دخلت منطقتنا في مرحلة ما بعد الثورات الشعبية العربية في خضم تنافس إقليمي ودولي كبير، ساهم في إعادة ترتيب المنطقة وفق ثلاثة محاور متنافسة فيما بينها مصلحياً رغم تقاربها وتشابهها فكرياً، هي محور إيراني ممانع؛ ومحور إماراتي/سعودي متحالف بصورة كلية مع دولة الكيان وأمريكا، ومحور تركي/قطري ذو توجهات وسطية تحافظ على علاقة تعاون متبادلة مع جميع اللاعبين الدوليين البارزين في المنطقة، من أمريكا إلى الصين، ومن الاتحاد الأوروبي إلى روسيا. وتستثمر المحاور الثلاث الفكر الديني الطائفي لترسيخ مصالحها ورسم سياساتها الإعلامية، بينما يتمايز محور عن آخر بقدرته على تبني خطاب إعلامي وسياسي أكثر ديمقراطية وإنسانية، يتجسد عملياً بخطاب يدعم بعض الثورات العربية الشعبية.
وعليه فقد ساهم تنافس هذه المحاور المتشابه قيمياً في تنحية التنافس الفكري فيما بينها، وهو ما انعكس من خلال تردي المنظومة الثقافية العربية عموماً، وأفسح المجال أمام المتسلقين والانتهازيين كي يتصدروا المشهد الثقافي، دون التقليل من قدرة بعض الأشخاص والمراكز البحثية على إضاءة بعض الجوانب الثقافية والفكرية، بتميز فريد من نوعه في هذه المرحلة الصعبة. لذا ونتيجة تهميش المفكرين والباحثين العرب عن صدارة المشهد الثقافي والإعلامي، نجحت المحاور المتنافسة في تهميش القيم الفكرية والثقافية والتوعوية، لصالح تصدر خطاب شيطنة ورفض الآخر المختلف معها مصلحياً، اعتقاداً منها بأن مصالحها في المرحلة الراهنة لا تتطلب دعم نهضة فكرية اجتماعية، بقدر ما تتطلب فرض تجاذبات اجتماعية تحاكي تجاذبات المحاور الإقليمية تحت عناوين طائفية ودينية أحياناً، أو لصالح شعارات إنسانية وحضارية براقة غير متجسدة في أي منها فعلياً كالعلمانية والديمقراطية مثلاً.
بينما يعبر العامل الثالث عن تأثير بنية المنطقة السائدة اجتماعياً وسياسياً، والنابضة برفض الآخر وشيطنته وتخوينه ونفيه، فنحن نعيش في منطقة ترزح تحت حكم سلطات استبدادية قمعية منذ عشرات السنين، لا تقبل بوجود المختلف عنها وتعمل على سحقه ومحوه من الوجود. وهو ما يتطلب من رافضي هذه القيم والسلطات جهداً مضاعفاً لمواجهة قوى الأمر الواقع المسيطرة من جهة، ولمواجهة انعكاساتها الدفينة في بنانا الفكرية والاجتماعية نتيجة له من جهة أخرى. فقد تزايد تأثير العامل البنيوي في الفترة الماضية أضعافاً مضاعفة نتيجة سيادة المنظور السياسي والفكري الواحد عالمياً أيضاً، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسيادة القطب الواحد الأمريكي عالمياً، فعلى الرغم من جميع سلبيات وكوارث الصراع الأمريكي/السوفيتي في الحقبة الماضية، إلا أنها كانت تعبيراً عن صراع فكري وأيديولوجي وقيمي بين مفهومين كاملين للحياة ومختلفين كلياً قيمياً ومعرفياً، لذا وعلى الرغم من سلوكهما الاستبدادي تجاه الآخر، الذي عمل بجميع الأدوات المشروعة وغير المشروعة على قمع الآخر داخل مناطق نفوذه، غير أنهما عكسا علينا وعلى مجمل العالم في حينه تنوعاً فكرياً وسياسياً أتاح لنا مساحة مقبولة للاختيار، كما قدم لنا كماً هائلاً من المواد والمراجع الفكرية ذات التوجهات المتناقضة، وفي جميع الاختصاصات والفروع العلمية والفلسفية والمنهجية. وهو ما ساهم في حينه في تحرر منطقتنا ولو قليلاً من تأثيرات بنيتها الاستبدادية السائدة سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وانعكس فكرياً وثقافياً في سيادة الأعمال النقدية الجدية على حساب الأعمال التشهيرية والتحريضية الرثة.
وبالتالي وبحكم هذه العوامل، راجت في الفترة الأخيرة المواد ذات المضمون التشهيري على حساب العملية النقدية الفكرية الممنهجة، وخصوصاً تجاه بعض الرموز الثقافية والفكرية والسياسية العربية التقدمية والثورية، أو تجاه بعض المؤسسات والأفراد الممثلين لتوجهات المحاور الإقليمية. كالتشهير بحق المفكر الماركسي العربي سلامة كيلة على خلفية مواقفه وتحليلاته الإنسانية والتحررية والثورية تجاه مجمل البنية العربية السائدة سياسياً واقتصادياً ومعرفياً، وتخوين المفكر جلبير الأشقر على خلفية عمله كمدرس بإحدى الجامعات الغربية وما تبعه من محاضرات تاريخية وسياسية واقتصادية استهدفت بعض الجنديات والجنود وضباط الصف والاحتياطيين التابعين لوزارة الدفاع البريطانية، وليس انتهاء بالتشهير بحق مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات د. عزمي بشارة على خلفية انتمائه الديني وجنسيته التي فرضتها الدولة الصهيونية التي تحتل كامل الأرض الفلسطينية. إذ خلت جميعها من نقد نصوصهم، أو حتى نقاش أو رفض المنطلقات الفكرية والفلسفية التي استندوا إليها في أعمالهم، بل كانت مخصصة لشيطنتهم وتخوينهم ورفض كل ما ينطقون به كلياً ومطلقاً، بشكل مسبق وحاسم وغير قابل للنقاش أو الجدال. وهو ما يعود بالضرر علينا كمتلقين أولاً، وكعاملين في المجالين الإعلامي والثقافي ثانياً، وكشعوب ساعية لاستعادة حقوقهم المنهوبة والمسلوبة ثالثاً. كونها ممارسات استبدادية وإقصائية تقوض الحقل الثقافي والإعلامي، ولا تخدم قضايا المنطقة والشعوب إطلاقاً، بل بالعكس هي ممارسة تكرس سيادة المنظومة الإقصائية الحاكمة وتخدم مصالحها المتعارضة مع مصالح الشعوب وحقوقها.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”