
عن نهاية الأحزاب الكلاسيكية في سوريا
منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة، لم تعرف البلاد تجربة حزبية طبيعية أو حياة سياسية متوازنة تسمح بتعدد الآراء والبرامج والمنافسة السلمية على السلطة. بل كانت السلطة منذ انقلاب البعث عام 1963 تنحو باتجاه احتكار العمل السياسي وتجفيف موارده، حتى باتت الأحزاب المعارضة، سواء تلك التي نشأت في الأربعينيات أو ما تلاها، أشبه بتنظيمات سرّية تواجه الملاحقة الأمنية الدائمة، دون أن تملك القدرة على التأثير الفعلي في المجال العام، ومع تسلّم حافظ الأسد السلطة عام 1970، بدأت مرحلة التصحر الكامل، حيث تمّت هندسة الحياة السياسية على مقاس السلطة الأسدية عبر ما يسمى بـ “الجبهة الوطنية التقدمية” التي ضمّت بعض الأحزاب الشكلية إلى جانب حزب البعث الحاكم، تحت مظلة واحدة خاضعة للأمن وللإرادة الرئاسية.
خلال حكم الأسد الأب، ثم الأسد الابن، مُنع تشكيل أي حزب معارض، وحوصرت الأحزاب التي لم تنخرط في الجبهة، وتم تجريم النشاط السياسي خارج الأطر الرسمية. فقد شهدنا حملات قمع واسعة طالت حزب العمل الشيوعي، إذ اعتُقل معظم كوادره وقادته لسنوات طويلة في سجون تدمر وصيدنايا. كما تم سحق جماعة الإخوان المسلمين بعد مواجهات حماة 1982، حيث أُقرّ القانون 49 الذي يجرّم مجرد الانتماء إلى الجماعة ويعاقب عليه بالإعدام. أما الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، فتعرض لحصار منهجي، واعتُقل أمينه العام رياض الترك لمرات عدة، وكان رمزاً لصمود المعارضة المدنية رغم كل المحن، وفي بداية الألفية، مع ما سُمّي حينها بـ “ربيع دمشق”، ظهر بصيص أمل، لكن النظام سرعان ما أُغلق الباب أمام الصالونات الحوارية التي انتشرت، وبدأت مرحلة جديدة من التضييق بعد اعتقال عشرات المثقفين والسياسيين، وحتى إعلان دمشق عام 2005، الذي مثّل محاولة جريئة لتشكيل جبهة معارضة واسعة من قوى قومية ويسارية وليبرالية وكردية، واجه قمعاً شرساً، وتم الزج بأبرز قياداته في السجن.
عندما اندلعت الثورة السورية في مارس/آذار 2011، كانت الأحزاب السياسية السورية في أضعف حالاتها، تفتقر إلى القاعدة الشعبية والتنظيم الفاعل، بفعل سنوات القمع الطويلة، ولذلك، لم تكن هي من أطلق الحراك الشعبي، بل جاء الحراك من الشارع العفوي، بقيادة شبان وشابات بلا انتماء سياسي واضح، ما أظهر الفراغ الكبير الذي خلفه تغييب الأحزاب عن المجتمع لعقود. لكن سرعان ما حاولت النخب السياسية والكيانات الحزبية المهجّرة توحيد صفوفها من خلال تشكيل المجلس الوطني السوري، الذي ضم أطيافاً واسعة من المعارضة، ثم لاحقاً عبر الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، بدعم دولي وإقليمي. لكن لم تنجح هذه الكيانات في ملء الفراغ السياسي الفعلي داخل البلاد، بسبب العسكرة المتسارعة للثورة، وانزلاقها إلى صراع مسلح داخلي، ثم إلى ساحة مفتوحة للتدخلات الإقليمية والدولية. وبفعل هذه التحولات، تراجع جدوى العمل السياسي التقليدي، وغرقت البلاد في فوضى السلاح والمصالح المتضاربة، ما أدى إلى تقويض فكرة الأحزاب نفسها، لا بوصفها أدوات تنظيم، بل كمرتكز للفعل الجماعي والتفاوضي.
التحول الحاسم جاء بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، عقب سيطرة هيئة تحرير الشام على دمشق وهروب رأس النظام. كان المشهد حينها يشي بتحول تاريخي، لكنه لم يفتح الباب أمام عودة السياسة، بل على العكس، تم تثبيت واقع انتقالي محكوم بميزان القوى لا بالتعددية. فقد عُقد “مؤتمر النصر”، أعقبه الإعلان الدستوري المؤقت، وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة السيد أحمد الشرع، لكن اللافت أن أياً من الأحزاب السياسية أو الأطر المعارضة لم يُستقبل رسمياً من قبل الرئيس الانتقالي، ولم تتم دعوتها للتشاور أو المشاركة في الهيئات الانتقالية.
هكذا، تم تجاوز العمل الحزبي كمقوم أساسي في إدارة المرحلة الجديدة، وتم الاكتفاء بأجسام تكنوقراطية ومجالس إدارية ومن لون واحد. فلا قانون للأحزاب، ولا انتخابات، ولا حتى نقاش حول شكل الدولة والنظام السياسي. اذاً خمسُ سنوات انتقالية بلا سياسة، ولا مسار ديمقراطي واضح، مما يعني أن معظم الأحزاب السورية – سواء القديمة أو الجديدة – باتت خارج دائرة الفعل، بلا نفوذ ولا قدرة على التأثير، وبلا جمهور أو دور.
في المقابل، شهد المشهد الكردي في سوريا تحوّلاً جذرياً، شكّل بمثابة الاستثناء عن القاعدة السورية العامة. فبعد عقود من الانقسام الحزبي الحاد، والتجاذبات بين الأحزاب التقليدية – خصوصاً بين احزاب المجلس الوطني الكردي وأحزاب الإدارة الذاتية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي – جاء “كونفراس وحدة الصف والموقف الكردي” المنعقد في قامشلو بتاريخ 26 نيسان 2025، ليشكّل نقطة انعطاف تاريخية. حيث تم الإعلان عن رؤية كردية مشتركة تتضمن اتفاقاً وطنياً حول شكل الدولة السورية القادمة، وضمان الحقوق القومية للشعب الكردي ضمن إطار لامركزي ديمقراطي. كما تشكّل وفد كردي مشترك للتفاوض مع الحكومة الانتقالية في دمشق حول مستقبل الدولة والضمانات الدستورية للحقوق الكردية. هذا التطور وضع القضية الكردية خارج الاصطفافات الحزبية الضيقة، وأخرجها من رهانات الصراع الداخلي الكردي، وحوّلها إلى قضية تفاوض وطنية قائمة على التوافق، لا على النزاع الفصائلي. فقد أدرك الفاعلون الكرد، في لحظة استثنائية، أن تفويت الفرصة التاريخية سيكون جريمة سياسية، وأن وحدة الصف أهم من الخلافات والمصالح الحزبية، وهنا، لا بد من الاشارة بأن التيار القومي الكردي، قد لعب دوراً محورياً في الدفع نحو هذا الاتجاه، بعيداً عن منطق المحاصصة أو تقاسم المغانم.
غير أن هذا التحول الإيجابي في الحالة الكردية لا يلغي هو أيضاً حقيقة أن العمل الحزبي بمعناه التقليدي لم يعد يشكل الإطار الأمثل للتعبير عن الطموحات السياسية في المرحلة الانتقالية السورية. فغياب المؤسسات الدستورية، واستمرار الطابع الأمني والإداري في إدارة المناطق، وضعف الثقة الشعبية في الأحزاب، كلها عوامل تجعل من الاستمرار في النموذج الحزبي القديم عبئاً على المرحلة الجديدة. لذلك، قد تكون الحلول البديلة أكثر واقعية ونجاعة، سواء عبر اندماج الأحزاب القريبة فكرياً وبرنامجياً، أو من خلال تشكيل كيانات سياسية جديدة تتجاوز منطق الزعامة والوراثة والمكاتب المغلقة، باتجاه حركات مدنية واسعة، تنطلق من المجتمع وتتفاعل معه.
إن نهاية الأحزاب في سوريا، بمعناها الكلاسيكي، لم تكن مجرد نتيجة طبيعية للانهيارات التي شهدتها البلاد منذ عام 2011، بل انعكاس لانعدام الإرادة السياسية في الاعتراف بالحياة الحزبية كشرط لازم لأي ديمقراطية مستقبلية. ومع عدم صدور قانون للأحزاب، وحل الاجسام السياسية، واستمرار القوانين الموروثة من عهد البعث، ومع تجميد الحياة السياسية طوال المرحلة الانتقالية، فإن أي حديث عن التعددية والمنافسة سيبقى فارغاً من أي مضمون. من هنا، المطلوب اليوم ليس التباكي على الأطلال الحزبية، بل التفكير الجدي في صياغة أدوات سياسية جديدة تواكب اللحظة وتستجيب لتحدياتها، سواء من خلال شبكات مدنية، أو ائتلافات مرحلية، أو منصات سياسية عابرة للتنظيمات.
أما في المشهد الكردي، فإن نجاح الكرد في تجاوز الانقسام والتوصل إلى رؤية مشتركة يمنحهم موقعاً تفاوضياً مهماً في بناء سوريا المستقبل، شرط الحفاظ على هذا التوافق، وعدم العودة إلى الاصطفافات الحزبية التي أضرت كثيراً بالقضية.
لقد بات واضحاً أن الحقوق القومية لا تُنتزع بالشعارات ولا بالمناورات الحزبية، بل بالوحدة السياسية والوضوح في الموقف والرؤية، وهذا ما يجب أن يُبنى عليه في المراحل المقبلة، سواء في التفاوض مع دمشق، أو في صياغة العقد الاجتماعي الجديد.
لقد انتهى زمن الأحزاب الكلاسيكية كما عرفناه في سوريا، وبدأ زمن التحولات الكبرى، حيث لا مكان للكيانات المتكلسة، ولا جدوى من العناوين والشعارات الفارغة. فالسياسة اليوم إما أن تكون تجسيداً مادياً لنبض الناس وطموحاتهم في الحرية والمشاركة والمواطنة، أو لا تكون، والمستقبل لن يكون إلا لمن قرر أن ينحاز للشعب، وألّا ينتظر التعليمات من فوق.