
عن قضايا السكان والإحصاء السكاني والتنمية
يُعدّ الإحصاء السكاني في سوريا مشروعاً وطنياً ينبغي لكل من يعي متطلبات المرحلة ما بعد سقوط الأسد أن يدفع باتجاه تطبيقه، والتحضير التقني والسياسي اللازم، الذي يمتد لأشهر طويلة وسنوات من العمل الجاد لتجهيز الأرضية لاحتواء هذا المشروع والخروج بنتائج من واقع الأرض والناس.
من الدول التي قامت بهذا المشروع بعد تعرضها لسنوات من النزاع نذكر البوسنة والهرسك، العراق، السودان، أفغانستان، ورواندا. لكل دولة خصوصية ديمغرافية وسياسية محددة، بل خصوصية طائفية وعرقية معينة، وتُبنى فيما بعد الهيكلية العامة للتنمية وردم الفجوات. فليس من السهل الحديث عن مثل هذه المشاريع دون التطرق إلى وجود خبراء وتقنيين محليين ودوليين ومتطوعين وشراكات مالية ومنح، على سبيل المثال يمكن أن يكون صندوق الأمم المتحدة للسكان، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، البنك الدولي، ومنظمات الإحصاء الدولية في دول الاتحاد الأوروبي، التي تقدم دعماً تقنياً ومالياً للدول ما بعد النزاعات في مشاريع الإحصاء التي تعمل عليها. كما يمكن للدعم الداخلي من الوزارات المختصة والبنوك الحكومية أن يمول الأنشطة المتعلقة بهذا المشروع بقدر يحقق كفاية مالية محققة.
ثالوث الدولة هو (الأرض، السلطة، والشعب)، ولذلك لا يمكن لأي نظام سياسي أن ينجح بدون قاعدة بيانات دقيقة لحجم السكان، رأس المال الاجتماعي، والقوة البشرية الحالية وتوقعاتها المستقبلية. وعليه، يمكن تحديد الفجوات والفرص التي يمكن وضعها على الطاولة.
ومن زاوية أخرى، يمكن القول إن مشروع الإحصاء السكاني يعيد استعادة القرار وإعادة بوصلة التنمية إلى السكة الصحيحة، حيث يُحسب ما تعرض له النسيج السكاني السوري من متغيرات بالحسبان، منها النزوح، التهجير القسري، موجات الهجرة الجماعية، وجرائم الإخفاء القسري في سجون النظام البائد الذي عمد إلى تفتيت هذا النسيج. وما يعدّ الأخطر على الإطلاق هو استبدال السكان الأصليين من قبل النظام السوري البائد في المدن والقرى السورية الثائرة بمقاتلين ميليشياويين غيروا الوجه الأساسي للحاضرة المدنية للشعب السوري.
ويعدّ تنفيذ الإحصاء السكاني مهمة أساسية تُجرى بعد النزاعات والحروب، خاصة في الوضع السوري، من أجل اعتبارات تنموية وحوكمية ملحّة ضمن القطاع العام واستعادة قوته وتحديد أولوياته من جديد. ومن جهة ثانية، يهمّ القطاع الخاص ليكون على اطلاع بحجم العمل المطلوب والزاوية التي يريد العمل في سياقها. فكل الجهود التي قامت بها المراكز البحثية في الملف السوري لم تكن إلا إحصاءات غير رسمية اعتمدت على تقديرات حسابية في ظل التغيرات السكانية التي طالت الجغرافيا السورية على امتدادها الواسع.
ومن هذا المنطلق، يمكن التركيز على ملف إعادة الإعمار لتحديد حجم الضرر في المساكن والبنية التحتية، خاصة في المدن الكبرى مثل حلب، دمشق، إدلب، حمص، وجميع القرى والأرياف المحيطة بهذه المحافظات، بالإضافة إلى الدمار في شمال شرق سوريا. لذلك، لدينا أولويات عاجلة لإعادة سكان المخيمات إلى بيوت في قراهم ومدنهم الأصلية، ولا يمكن ذلك بدون معرفة خريطة الاحتياجات السكانية مع أولويات الاستثمار في القطاعات الحيوية مثل الإسكان، الصحة، والتعليم، والتفكير في ربط ذلك بخلق فرص عمل لهذه الشرائح السكانية التي يمكن إحصاؤها عموماً.
وهذا يصبّ أيضاً في تموضع العدالة الاجتماعية وتطوير برامج الرعاية الاجتماعية التي يمكن أن يستفيد منها عشرات الآلاف من مصابي الحرب جراء العمليات العسكرية، الجبهات المشتعلة، والقصف الممنهج على مدار العقد الماضي، ويضاف إليهم عوائلهم وذووهم بشكل مباشر. وهذا يحتاج إلى قاعدة بيانات دقيقة لضمان وصول عادل للفئات المتضررة من السكان. وعليه، فإن ملء هذه الفجوة يمكن أن يعزز من مستويات حماية حقوق الإنسان والاعتراف الشمولي بكل من تأثروا بالنزاع على مدار السنوات الماضية.
ولا يمكن الحديث عن قيم العدالة الاجتماعية وبرامج الصحة والتعليم والشيخوخة والرعاية الاجتماعية بدون حوامل مؤسساتية في القطاع العام، الذي لا يخفى على أحد حجم الترهل والفساد الذي ينهش مؤسسات الدولة السورية، مما أفقدها دورها الركائزي الإداري والتخطيطي لتحقيق الدعم اللازم خدمياً ومعيشياً. ومن يراقب عن كثب يعي جيداً كيف تؤدي مؤسسات المجتمع المدني مهام الدولة في تقديم الخدمات الأساسية لاستمرار العيش في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، والمناطق التي ظلت سابقاً تحت سيطرة النظام، تكاد تكون أقل من الحد الأدنى من الحقوق الأساسية التي يمكن أن يحصل عليها المواطن العادي في أي دولة من دول العالم في العصر الحالي.
ومن قيم العدالة الاجتماعية إلى ضفة القيم والحقوق السياسية، يُعتبر الإحصاء السكاني عملية جوهرية لا يمكن الاستغناء عنها لهيكلة النظام الانتخابي ضمن أي نظام سياسي في العصر الحديث، حيث يعتمد تحديث السجلات المدنية لضمان نزاهة العمليات الانتخابية، وتحديد النسب التي يمكن أن تكون فعالة في العملية الانتخابية من المجموع الكلي للسكان، ومعرفة عدد الأوراق الرسمية التي يمكن أن تكون بحوزة الناخبين، سواء كانوا داخل سوريا أم خارجها. فإن الإحصاء عملية شاملة وتستحق العمل عليها لضمان أكبر مشاركة في الانتخابات الوطنية خلال الاستحقاقات القادمة في الدولة السورية، ليكون العقد الاجتماعي مبنياً على أسس الرضا الشعبي والتكامل والتوافق على المرحلة، من البنود العريضة إلى التفاصيل التقنية التي يجب أن تُحاط بها.
وفي النهاية، تمثل قضايا السكان أحد التحديات المحورية في المرحلة الانتقالية، حيث يمتدّ تأثير التغيرات الديموغرافية بشكل مباشر على عمليات إعادة الإعمار، الاستقرار الاجتماعي، التخطيط التنموي، وعودة النازحين والمهجرين من كل أصقاع الأرض إلى وطنهم الأم، سوريا. ومن هنا، يصبح الإحصاء السكاني ضرورة حتمية لوضع سياسات قائمة على بيانات دقيقة وموثوقة، تضمن التوزيع العادل للموارد، تحقيق زيادة معدلات الدخل للفرد، وتلبية برامج الرعاية الاجتماعية، بما يعزز قيم العدالة الاجتماعية والرفاه المحلي في السنوات القادمة. وبالتالي، فإن نجاح هذه العملية يعتمد على تبني أساليب حديثة، والتعاون مع الجهات الإقليمية والدولية، وضمان الشفافية في جمع البيانات وتحليلها، بما يسهم في بناء مستقبل مستدام يلبي احتياجات جميع فئات المجتمع دون أي إقصاء أو تمييز.