عن فيروز وماكرون والصراع الجديد على المنطقة..
تكتسب الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون إلى لبنان للمرة الثانية خلال ثلاثة أسابيع فقط أهمية خاصة لا لأنها تأتي بعيد التفجير الرهيب الذي دمر أجزاء هامة من بيروت ما تكلفته مليارات الدولارات ناهيكم بآلاف الضحايا بين أموات ومصابين.. بل لأن الطبقة الحاكمة أوهنت لبنان على غير صعيد، وجعلته قابلاً للزوال بحسب ماكرون نفسه.. والحقيقة إن مقولة الزوال تتماهى بفعالية الدولة وقيادتها على مر التاريخ.. فهناك حكام يجعلون من الدول التي يديرون شؤونها في أعلى المراتب، ويكسبونها مكانة رفيعة ما كانت لتكون لها لولا سعيهم ودأبهم وثقتهم بإبداع شعوبهم، في حين أن معظم الحكام الذين ابتلي بهم العرب في أيامنا هذه وخصوصاً هؤلاء الذين أتوا بانقلابات عسكرية أو الذين يحكمون باسم القبائل والطوائف لا يرون في شعوبهم إلا عبيداً ومجالاً لنهبهم وثروات الدولة معاً، ويصعب في وقتنا هذا أن نجد حاكماً عربياً من النوع الأول.. وإلا لِمَ هذا التخلف على غير صعيد؟! بل لِمَ هذا الذل وطمع الأجنبي لولا ضعف الحكام وصَغَارهم أمام الأجنبي..؟
قد يستهجن بعضنا تصريح ماكرون، وبغض النظر عن غاية ماكرون وما بنفسه من نوايا، ولكن من ينظر إلى التاريخ القريب لهذا العالم تصدمه حقائق لم تكن متوقعة في حينها.. ألم يكن الاتحاد السوفييتي دولة عظيمة واحدة تقف نداً للولايات المتحدة الأمريكية، فكيف آل بين عشية وضحاها إلى دول، بل إلى شعوب تتناحر ضمن الدولة الواحدة، وقد بدَّل غيابه في موازين القوى العالمية الموجودة على الكرة الأرضية، ولمَّا تنته بعد إذ هي في تبدل مستمر على غير صعيد.. ولماذا الذهاب إلى الاتحاد السوفييتي؟! بل لماذا لا ننظر لما حصل، ويحصل في كل من العراق وسورية وليبيا واليمن من ثورات مضادة وما يهيأ لفلسطين من مشاريع إلغائية تباركها أو تقوم بها بكل وقاحة بعض الدول العربية الحاكمة باسم القبائل أو الطوائف تحت ما يسمى “مشاريع سلام” وما هي في الجوهر إلا الحرب على القضية الفلسطينية، وعلى المنطقة كلها، ومهما قيل عن القيادات الفلسطينية التي تشبه تلك الدول.. فما هو واضح أن العرب يقدمون تنازلات بلا مقابل وفي وقت تجاهر فيه إسرائيل بضم الأراضي التي احتلتها عام سبعة وستين وتضيف إليها أراضي جديدة بينما تدير ظهرها لعشرات قرارات الأمم المتحدة التي تمنح الفلسطينيين أرضاً وكيان دولة وأولها قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 الذي طبقه الصهاينة وأضافوا إليه ثلاثة أرباع الأراضي الفلسطينية ولا زالوا يحتلون ما تبقى..!
أعود إلى زيارة الرئيس الفرنسي بعد هذا الاستطراد الذي فرضه المقام لأقول إنها زيارة لا تعد عادية بين دولة ودولة فحسب، ورغم أن ظاهرها لا يأخذ طابع وصاية دولة على أخرى، إلا أنها في الجوهر كذلك، وإن كانت العلاقة بين فرنسا ولبنان مميزة، لكن ماكرون نفسه قال للصحفيين: “إن من أهداف عودته تأكيد تشكيل حكومة لبنانية “بمهمة محددة” ستتشكل في أسرع وقت، لتنفيذ الإصلاحات، وأفهم اللبنانيين إن هذا شرط “المجتمع الدولي مقابل تقديم الدعم للبنان للمساهمة بإعادة تشغيل العجلة الاقتصادية”.
إن هذا الشكل من فرض الإرادة يقول بالوصاية، وبالوضوح كله، أو بالوقاحة كلها ولكن من الذي جعل الرجل يقول ذلك لاشك بأنهم حكام الطوائف اللبنانيون الذين قادوا لبنان إلى هذا الدرك ما جعل اللبنانيين يتوسلون الأجنبي بكل أسف.. والغريب أن أعمدة الحكومة التي كان لها باع طويل فيما آلت إليه البلاد قد بدلت ألسنتها.. فهذا نبيه بري الذي كان قبل فترة وجيزة ضد الانتخابات المبكرة يدعو اليوم إلى الخلاص من النظام الطائفي، ويسميه: “علة العلل” كما قال بالحرف، وكأنه يجهل بنود الدستور اللبناني وهو رئيس المجلس التشريعي لمدة ثلاثة عقود.. إذ تشير مقدمة الدستور اللبناني المضافة تحت رقم 18 تاريخ 21/9/1990 في البند (ح) إلى: “إلغاء الطائفية السياسية” وعدها: “هدفاً وطنياً أساسياً يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية”. أما السيد حسن نصر الله أفقد اللبنانيين حريتهم أشار إلى الانفتاح على الطرح الفرنسي، لكنه عاد إلى نغمة المقاومة مع تعديل بسيط، وهو معاملة العدو الإسرائيلي بالمثل أي إنه إذا ما قتلت إسرائيل جندياً من جنود حزب الله، فإن الحزب مضطر، هو الآخر، لقتل جندي إسرائيلي، وكأن السيد حسن يجهل أهداف المقاومة التي تعني بحسبه: تحرير فلسطين بالكامل، كما تعني الصلاة في القدس.. على كل حال، وبعيداً عن تصريحات هؤلاء الذي قادوا لبنان إلى هذه النهاية الحزينة يرى مصطفى أديب رئيس الوزراء المكلف:
أنَّ “الفرصة أمام لبنان ضيقة، والمهمة التي قبِلَها هي بناءٌ على أن كل القوى السياسية تدرك ذلك، وتفهم ضرورة تشكيل الحكومة، في فترة قياسية، والبدء بتنفيذ الإصلاحات فوراً من مدخل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي”.
إن ذهاب ماكرون إلى السيدة فيروز سيدة لبنان دون أدنى ريب بما تمثله من فن راق وَصَل إلى العالم أجمع، وإذا كانت أم كلثوم مصر، قد غنت للحب الذي يجمع بين اثنين فإن فيروز والرحابنة عموماً قد ارتقوا بالحب إلى معناه الأشمل والأعم، إلى معناه الإنساني المرئي في نسغ شجرة الحياة وفي جمالها المتعدد حتى في بساطة عيشها.. ولعلَّ الموسيقار محمد عبد الوهاب أصاب الحقيقة حين قال في إحدى مقابلاته رداً على محاوره الذي سأله عن فيروز “نحن نتحدث عمن هم في الأرض هل تريدنا أن نصعد إلى الملائكة” إن زيارة فيروز أولاً إنما تعني ومرة ثانية أقول بغض النظر عن مرامي ماكرون هي زيارة لبنان الوطن والشعب اللبناني الذي رسمته صوتاً وغنته لحناً، فهي واحدة من المطربات النادرة المحبوبة والمحترمة في أنحاء البلاد اللبنانية جميعها وفي العربية عموماً.. وتعد فيروز من أشهر المطربين في العالم العربي ويعدُّ صوتها كما وصفتها إحدى القنوات الفضائية “موسيقى تصويرية للبنان في أوج ازدهاره مروراً بصراعاته وحتى أحدث صدمة شهدها”. إن تقليد الرئيس الفرنسي السيدة فيروز “وسام جوقة الشرف” أرفع وسام في بلد الحريات والثقافة لذو دلالات كبرى ومنها ما يقوله الفن اللبناني والثقافة اللبنانية اللذان لطالما انتقدا النظام الطائفي ذا الجوهر الاستبدادي.. وأتاحت الزيارة لماكرون اللقاء بالجماهير الشعبية ثانية التي طالبته في المرة الأولى بعودة فرنسا إلى الانتداب ما يجب أن يندى له جبين الحكومات المتعاقبة حياءً إن كان ثمة ماء للحياء في الوجوه التي تعلو مصالحها فوق مصالح الشعوب والأوطان..
أخيراً ومهما يكن من أمر لبنان فلا يمكن فصل زيارة ماكرون عما يجري في منطقة الشرق الأوسط من صراع على ثرواته ومن محاولة فرنسا مزاحمة المتزاحمين على ثروات الشرق الأوسط وخصوصاً على ما في بحرها الأبيض من ثروات أهمها الغاز..
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”