fbpx

عن سلطات الهدر والدولة البوليسية

0 616

مع استمرار الهيمنة والتسلط، واستفحال مآلات العسف والهدر للكرامة الإنسانية، وتعويم الفكر الاستبدادي البوليسي، يتبدى اليوم وأكثر من أي وقت مضى، حال الدولة البوليسية، المنفلتة من عقالها، بل من كل عقال، والباسطة أذرعها الضاربة، فوق رؤوس العباد والبلاد، وهذا الهيجان الطغياني الملحوظ، والملموس، في واقعنا، ومشرقنا العربي على وجه الخصوص، ضاربة عرض الحائط بكل القيم الإنسانية، بل وما قبل الإنسانية، هائمة على وجهها شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، هادرة الدم والأرض والعرض، باسطة عنفها، بل بسطارها العسكري البوليسي، على كل ما هو موجود وممدود، غير آبهة بما يمكن أن ينتج عن ذلك مستقبلاً، من ردود فعل لا تحمد عقباها، ونواتج صدامية غاية في التطرف والعسف، وهي كذلك أيضاً.. ففي مفهوم الدولة البوليسية يتحدد المعطى الممارس، في الولوج نحو ذات الإنسان، منتهكة كل محرماته وتابواته، داحرة أمامها كل (ما خلق الله أو لم يخلق)، عبر فعل هدري بوليسي يعبر عن مكنونات في الدواخل، لابد من الغوص وراءها، ومعرفة كنهها، لنستطيع أن نلامس منعرجاتها، ونمسك بحوافها، قبل أن تصبح هلامية، لا حافة لها ولا ملمس، يصعب الإمساك بها تحت أي ظرف، وضمن أية متحققات.

إن هذا النهج الشمولي البوليسي – حسب الدكتور جمال الأتاسي – النازل كحق مطلق من فوق المجتمع والشعب، قد أقام سداً في وجه العمل السياسي والديمقراطي على صعيد المجتمع، وفي وجه أي نشاط سياسي أو اجتماعي أو ثقافي مستقل، وخارج أطر الهيمنة المطلقة، فلا رأي آخر غير رأيه، ولا يقبل بقيام أية معارضة في أي موقع من المواقع لنهجه، فإما أن تكون مع السلطة – أي مع الدولة البوليسية – راضياً ومؤيداً ومسلماً بكل ما تقول وتفعل، أو أن تدخل في الأطر والأقنية التي ترسمها أجهزة النظام للعمل والولاء، وإلا فأنت خارج على القانون والنظام، وأي تعبير عن معارضتك لهذا الواقع، وما يجري، أو جهر برأي آخر، أو موقف لا يتفق مع مقولات نهج الحكم، يعتبر تهديداً لأمن الدولة…. وإذا ما جهرت من عندك وأعلنت في موقف معارضتك لواقع الظلم والفساد والتمييز، ومارست حقك كمواطن وإنسان في التعبير عن مطالبك، أو مارست بعضاً من حقوق المواطنة في حرية الكلمة والتعبير، وحرية التجمع والتنظيم الديمقراطي المستقل عن التنظيمات التي فرضها النظام وأجهزته، تكون شققت عصا الطاعة، وأنت من العصاة، ويطالك التحقيق والأجهزة والمحاكمات الاستثنائية.

في الدولة البوليسية هناك صنفان من المواطنين وطبقتان: صنف الحاكمين وطبقة المنتفعين من الحكم، وكل من يلوذ بهم وينتهز الفرصة ويتبع، وهو يحظى بالمكاسب والثراء والنعم ويباح له ما لا يباح، ويغفر له مالا يغفر، أما الصنف الآخر، الذي لم يدخل في مراتبية الطبقة الحاكمة ومجتمع أهل الحكم، وذلك الذي لا يقبل أن يخضع ويتبع، فليس له من حقوق المواطن شيء يذكر، وإذا ما ضاقت أمامه سبل العيش الكريم وفرص العمل، وإذا ما ضاق ذرعاً بكبت حريته وإلغاء حقه في التعبير عن مطالبه وممارسة مواطنيته، فليس له إلا أن يواجه التهميش والقمع، أو ليس له إلا أن يهاجر ويرحل، والكثيرون هجروا وهاجروا خارج البلاد. 

يؤكد الدكتور خلدون النقيب في كتابه “الدولة التسلطية في المشرق العربي” بأن الإطار التاريخي الذي ولدت فيه الدولة البوليسية في العالم الثالث عامة ومنه العالم العربي هو الاتجاه العالمي نحو توسع وتعاظم دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع الذي أصبح حقيقة واقعة وتياراً كونياً على مستوى العوالم التالية.. الأول: الرأسمالي الذي أنتج دولة الرعاية والليبرالية التجارية (أي الدولة الكينزية) والثاني: الشرقي الذي أنتج نوعاً مشوهاً من الاشتراكية المبقرطة، والثالث: المتخلف (عنهما) الذي أنتج رأسمالية مشوهة نسميها تجاوزاً رأسمالية تابعة”.

وفي هذا السياق وضمن كتاب (سقوط الدولة البوليسية) للكاتب التونسي توفيق المديني، يبين الكاتب أن الدولة البوليسية عامة هي التعبير المعاصر عن الدولة الاستبدادية القديمة وهي ارتبطت بتطور الرأسمالية في مراحلها المختلفة، أما الدولة البوليسية التي ظهرت في العالم العربي على وجه الخصوص فقد ارتبطت بتدخل الدولة الهائل في الاقتصاد والمجتمع، ومن ثم تعاظم دورها، وتنامي تسيدها على المجتمع.

وهو يشير إلى أن الدولة البوليسية ترتكز على الأسس التالية:

1- احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع (بواسطة اختراق المجتمع المدني وافتراسه).

2- بقرطة الاقتصاد إما من خلال توسعة القطاع العام، وإما بإحكام السيطرة عليه بالتشريع واللوائح (أي رأسمالية الدولة التابعة).

3- كون شرعية نظام الحكم تقوم على القهر من خلال ممارسة الدولة للإرهاب المنظم ضد المواطنين، وكل ذلك غير مستمد من ضرورات التنمية وإنما يصب في إدامة نظام الحكم. وهنا لابد من التأكيد على أن كل هذه المحددات العلمية التي ذهب إليها الكتاب وأصحاب الفكر، قد تجاوز معظمها الزمن، بعد أن شاهدنا، ونشاهد يومياً، آليات جديدة تتجسد، وتجسد نواتج الدولة البوليسية الغارقة في دهاليز القهر والسلب والنهب.. فقد أضحى للدولة البوليسية نواتج وآليات جديدة ومتجددة، سبقت زمانها وتجاوزت آليات ومحددات المنظرين، ليلمس المرء يومياً، اتجاهات في القهر وسحب الشرعية، وانتهاك الحرمات، وممارسة الإرهاب المنظم، وغير المنظم، كنماذج يصعب تأطيرها الآن، أو تحديد سياقاتها، قبل مرور زمن عليها، حتى يكون التحليل غير انفعالي، هادئ ومتزن وأقرب إلى الغوص العلمي، منه إلى ردود الفعل الانفعالية، فتعاظم دور أذرع الدولة البوليسية، التي لا يضبطها ضابط، ولا يمسك بمسارها أي وازع، ولا يقف في طريقها، أي محرم، أو مقدس، يدفعنا إلى القول: إن الدولة البوليسية اليوم تنخرط في بنية جديدة، هي ليست الدولة، ولا بنيتها على الإطلاق، بل ترد إلى ما قبل الدولة، وإلى ما قبل العشيرة. وإلى ما قبل أي ما قبل له، أدوات الحكم البوليسي التسلطي العصرية اليوم، هي ليست كأي ما سبقها، وهي شيء آخر ومختلف، متعدد النواتج ومنفلت الانضباط، ينتج عنه حالات من الرعب البوليسي، ستظل المجتمعات العربية عالقة بين ظهرانيها إلى أزمنة أخرى قادمة.

الرعب البوليسي اليوم الغارق في نهارات وليالي خارج المنطق، وخارج حدود العقل، سيؤسس لثقافات جديدة، ليس أهمها، ولا آخرها ثقافة الخوف الثاوي في مخيال كل منا.

ولكن.. هناك من يعتقد أن الرعب البوليسي العصري الناتج عن الدولة البوليسية الحديثة بكل أدواتها ونواتجها، سينتج كينونة مجتمعية مختلفة، وجد متمايزة، وستعيد بناء الإنسان على أسس جديدة، مدركة ماهية الحرية بالمعنى الفلسفي، والاجتماعي للكلمة. إن نواتج الدولة البوليسية العصرية الآنية، ستكون على عكس ما تمنى وخطط ونفذ أهلها، ستكون انقلاباً معرفياً آنياً ومستقبلياً جديداً، يلاقح كل الثقافات، ويبني نفسه بنفسه على حافة طريق أخرى، شاء من شاء، وأبى من أبى.

وتجدر الإشارة في هذا السياق، سياق الحديث عن الدولة البوليسية العصرية ونواتجها، إلى قول الدكتور عبد الاله بلقزيز: “إن دولة مستوردة أو مستعارة لا تعبر عن المجتمع ولا تنتمي إلى تاريخه الثقافي والسياسي، لن تنجح في تأصيل نفسها ولا في ضمان استقرارها، أو تحصيل الرضى الجماعي بها، ولن يكون من شأنها سوى استثارة، واستنهاض الاعتراض الاجتماعي الشعبي عليها “.

ويتابع قائلاً: “إن دولة مزروعة من فوق لن تنجح – مهما كانت حديثة – في أداء دور تاريخي مادامت عرضة للاعتراض الاجتماعي على شرعيتها”.

فكيف إذا كانت هي نفسها، ليست عرضة للاعتراض فقط، بل للنسف من داخل بنيتها، لما تؤول إليه نواتجها من قهر يطال كل شيء في المجتمع، من التراث والتاريخ والأصالة، إلى الإنسان وجوهر الإنسان، ومن ثم جسد الإنسان، وقداسة الإنسان.

وإذا ما ظل سيف القهر مسلطاً ومشهراً في وجه الشعب، وظلت حالات الهدر والاعتقال، والموت تعج بالناس المقهورين، لإخضاع المجتمع الشعبي، وفرض هيمنة مستمرة عليه، وسد أي باب للتغيير، ولقيام مجتمع مدني مستقل بإراداته الشعبية، فإن مصائر الأوطان رهن بأصحاب العقل والعقلانية… ومهما كانت الدولة البوليسية صاحبة السطوة والحق المطلق، فإن الشعوب لا تقهر، وستنتصر الشعوب لأنها صاحبة الحق، وصاحبة لواء الكرامة، ولابد من سماع صوتها. صوت الشعب، والإصغاء للإرادات الشعبية، فالمصائر مصائر الأوطان، وأمنها ومواطنيها، والمصالح ليست مصالح فئة، وهيمنة فئة، بل هي المصالح العليا لكل فئات المجتمع.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني