fbpx

عن تغييب العدالة الاقتصادية

0 388

غالباً ما تتجاهل المعارضة السورية الإشارة إلى القضايا الاقتصادية بجدية ووضوح، إذ تكتفي ببعض العبارات العامة والسريعة التي توحي عموماً بتوجهاتها الاقتصادية الليبرالية دون عرض التفاصيل. كالحديث عن تقليص دور الدولة اقتصادياً وربما اجتماعياً، في مقابل استفاضة زائدة عن الحد في شرح أهمية ومركزية الحريات السياسية، وتبادل السلطة، والحق في التنظيم السياسي، وفي فصل واستقلالية السلطات الثلاث ولاسيما القضائية منها. حيث تمثل هذه التصورات أو المحددات السياسية أبرز عناوين الإجماع، أو شبه الإجماع السوري، المنقوص أو المشوه، بحكم تجاهله لأهمية العامل الاقتصادي وتأثيره على مستقبل سورية. وتزول الفروقات هنا بين مختلف القوى السياسية السورية، بحكم خواء برامجها من أي عرض اقتصادي واجتماعي، وتشابه طروحاتها وأفكارها السياسية لدرجة يصعب على السوريين التمييز بينها، ما يجعل تصنيفها الوحيد حالياً هو ذاك المنطلق من تعريفها بهوية داعمها الإقليمي أو الدولي.

حيث تبدو قضايا الاقتصاد السوري وفق منظور المعارضة السورية أمراً ثانوياً فائضاً عن حاجة سورية، حتى يكاد يظن أي متابع خارجي للشأن السوري أن مشاكل الشعب السوري الاقتصادية محدودة جداً، وقد يتوهم أن الشعب السوري راض عن نهج النظام الأسدي اقتصادياً، مع بعض التحفظات الثانوية أو ربما الشكلية المتعلقة بتجاوزات فردية أو فئوية ضيقة لا تمس صلب النهج الاقتصادي، كنبذ الفساد الإداري والمالي، والاستياء من تدخل الأجهزة الأمنية في الصفقات والاستثمارات والمشاريع الاقتصادية الممولة داخلياً أو خارجياً. وهو ما يتجاهل واقع سورية المأسوي اقتصادياً، لاسيما قبل اندلاع الثورة، وهو الواقع الذي ساهم في تجذر، أو على الأقل انطلاق الثورة، وهو ما عبرت عنه بعض الشعارات الثورية الأولية التي لم تترسخ في الوعي الثوري السوري، نتيجة مسارعة النظام لقمع الثورة والحؤول دون اجتماع السوريين وتنظيمهم وصوغهم برنامجا ثورياً كاملاً ومتكاملاً. لكنه انعكس أيضا وبشكل واضح من خلال الفئات الشعبية الثائرة، ومن خلال المناطق الحاضنة للثورة، حيث غابت أو شبه غابت عنها المدن الرئيسية الكبرى؛ ولاسيما مدينتي دمشق وحلب، لصالح تجذر الحركة الثورية الريفية في محيطهما، وفي مجمل المناطق المهمشة والمنسية والمفقرة، كمناطق العشوائيات والمخالفات، بما فيها تلك الموجودة داخل العاصمة السورية دمشق على الرغم من حصارها أمنياً وعسكرياً.

لكن وبعيداً عن الدخول الآن في جدال حول أهمية العامل الاقتصادي؛ دون إهمال أهمية ومركزية العوامل الأخرى؛ ودوره في تفجر الثورة أولاً، وفي صناعة الاستقرار السوري ثانياً. علينا البحث في الحد الاقتصادي الأدنى المطلوب سورياً، والذي أعتقد أنه يتمثل في بعدين اقتصاديين مركزيين؛ أولهما العمل على بناء اقتصاد منتج ومتطور صناعياً وزراعياً؛ وثانيهما إقرار مفاهيم العدالة الاقتصادية المطلقة بما يضمن للسوريين حق العمل، ودخلاً مقطوعاً وثابتاً وكافياً للعاطلين عن العمل، والحق في السكن الصحي واللائق، والحق في الاستشفاء المجاني والشامل، والتوزيع العادل للثروات الوطنية وللمشاريع التنموية والاقتصادية؛ من أجل إلغاء؛ أو على الأقل تقليص الفجوة بين الطبقات السورية الأعلى والأقل دخلاً، على اعتبار أن القضاء على الفقر والحاجة مسؤولية مركزية ومباشرة للدولة السورية القادمة، وبغرض إزالة مظاهر التفاوت التنموي والنهضوي والخدمي بين المدن والمحافظات والقرى السورية المختلفة.

طبعا قد يفتح هذا الطرح الباب أمام نقاشات عديدة ومتنوعة، يعبر بعضها عن التباينات بين رؤيتين اقتصاديتين مركزيتين؛ هما الاشتراكية والليبرالية؛ وهو أمر ضروري وحيوي، لكنه خلاف جذري يصعب تقريب وجهات النظر فيه حاضراً ومستقبلاً، لذا لا أود الخوض فيه الآن بقدر ما أحاول الإشارة إلى ضرورة البناء على بعض المحددات الاقتصادية المهمة، التي تحظى بتأييد غالبية الشعب السوري، كونها تجسيد لهدف السوريين الأسمى وربما الأول، أي العدالة والمساواة الشاملة سياسياً واجتماعياً وقانونياً وطبعاً اقتصادياً. فمن العبث العمل على تحقيق عدالة ومساواة سياسية أو اجتماعية أو حتى قانونية عملية وواقعية في مجتمع تنخره فوارق طبقية كبيرة، وتتصاعد فيه معدلات الفقر والبطالة، فالتفاوت الطبقي والفقر وغياب الحقوق الاقتصادية هي المدخل نحو بناء دولة فئوية، تمثل مصالح الأغنياء من القادرين على فرض إرادتهم المدعومة بقدراتهم المالية على المحتاجين من فقراء الوطن، حتى لو لم يمتلكوا ذراعاً عسكرياً؛ وربما أمنياً؛ يمارس عنفاً جسدياً مباشراً لهذا الغرض، لذا فإن انتشار الفقر والتفاوت الكبير في الدخل الفردي يعبران عن دولة قسرية، وسلطة أمر واقع تفرض مصالحها ورغباتها؛ التي تمثل جزءاً صغيراً من السوريين؛ تفرضها على باقي السوريين بأدوات قمعية مالية أو أمنية.

وبالتالي فالعدالة الاقتصادية شرط أساسي من شروط تحقيق العدالة السياسية والاجتماعية والقانونية، أو على الأقل شرط أساسي لتطبيقها العملي، ولا يفرض اتفاق القوى السورية على أهمية الإقرار بمبدأ العدالة الاقتصادية أي رؤية أو نهج اقتصادي محدد وخصوصاً بما يخص النهج الاشتراكي، فقد تمكن النظام الليبرالي في بعض التجارب، من تحقيق دولة الرفاه الاجتماعية، التي نجحت في تحقيق درجات عالية من العدالة الاقتصادية لفترة زمنية طويلة مضت. وعليه لا يصح اعتبار المطالبة بإقرار مبدأ العدالة الاقتصادية محاولة لفرض نمط اقتصادي اشتراكي، بقدر ما يهدف إلى تحديد أهداف النهج الاقتصادي السوري المستقبلي. وبالتالي يصح اعتبار مبدأ العدالة الشاملة (السياسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية) بمثابة القاعدة الصلبة والمتينة الضرورية لبناء مستقبل سورية، وهي ما تكفل للشعب السوري مستقبلاً قدرته على اختيار النمط الاقتصادي والسياسي الذي يمثله، دون أي ضغط خارجي أو داخلي بفعل الحاجة والعوز وهيمنة رؤوس الأموال، أو بفعل الإرهاب العسكري والأمني. وبالتالي فإن العدالة الشاملة المتضمنة لمبدأ العدالة الاقتصادية، هي المدخل الوحيد لتحقيق مطامح وآمال الشعب السوري في بناء دولة ديمقراطية حديثة ومتطورة، دولة ترتكز على أسس العدالة والحرية والمساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دولة مواطنة لا تمييز بين أي من أبنائها،  وتفسح المجال أمام السوريين ليعبروا بحرية عن أفكارهم، دولة قادرة على توجيه الطاقات السورية الكامنة في بيئة عادلة ونقية خالية من الاستغلال والتمييز، تكون في خدمة للمصلحة العامة والصالح الوطني العام، لا في خدمة مصالح فئوية أو فردية ضيقة ومشبوهة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني