عن الزوجات السوريات وصدمة الاستقرار
أعطِ لسبعين بالمائة من النساء السوريات المتزوّجات حالة مادّية مريحة نسبياً مع جوّ عامّ من الأمان، ومع أنظمة تكفل لهنّ الحقّ في رعاية أولادهنّ والبقاء معهم، ثمّ وقوانين تشرّع لهنّ الطلاق بالرغم من أنّها ليست القوانين الشرعية التي ينبغي أن تطبّق على أحكام عقود زيجاتهنّ، لكنّها تخلّصهنّ من هذه الزيجات، وستجدهنّ جميعاً في خانة المطلّقات.
عذراً على هذا الاستنتاج التخميني أو التقرير غير المستند إلى إحصائيات أو توثيقات، لكنّ هذه مقالة رأي وليست بحثاً علمياً أو دراسة استقصائية، والكلام فيها محدّد ومقصود ولا يستهدف المرأة ولا المرأة السورية ولا الزوجات أو الزوجات السوريات، بل يستهدف مباشرةً وحصراً الزوجات السوريات اللواتي تحصّلن على مثل هذه الأوضاع، معاش وسكن وقوانين تضمن حضانة الأطفال والاستقلال والحرّيات، حرّيات بالجملة، لا تبدأ من حرّية التنقّل والتصرّف والعمل واتّخاذ القرارات المنفردة، ولا تنتهي بحرّية المعتقد أو بحرّية العلاقات العامّة والخاصّة والشخصية على أنواعها، الزوجات السوريات اللواتي استهدفن الطلاق استهدافاً بسبب أوضاعهنّ الجديدة تلك، الأوضاع التي لم تتمكنّ من الحصول عليها قبلاً، لكن حين حانت الفرص لهنّ انقضضن انقضاضاً على تراث عوالمهنّ القديمة وأوضاعها بكلّ محتوياتها المناخ المجتمع والأسرة، “الأسرة” التي تعني بالضبط الأب والأمّ والأولاد، والحديث هنا عن الزوجات السوريات اللواتي انتقلن إلى “أوروبا” عموماً.
بشكل ما فقد أصبحت ظاهرة الطلاق في “المجتمع السوري الأوروبي” ظاهرة واسعة الانتشار وليست منتشرة فحسب، ولكي نقول ظاهرة واسعة الانتشار، يجب أن نقارن ما كانت عليه الحال قبل ملاحظة حدوث الظاهرة مع ما آلت إليه الحال بعد حدوثها، مع الأخذ بعين الاعتبار عاملين على الأقلّ: الأوّل نسبة ارتفاع أعداد الحالات “حالات الطلاق هنا موضوعاً”، والثاني أسباب ارتفاع هذه الأعداد، وبمعنى آخر المقارنة بين ما كان قبلاً بما صار بعد ذلك، وإذا خرجت الزيادة عمّا كان مألوفاً في الأحوال العادية لعوامل أو اعتبارات ما، فنحن نتحدّث عن “ظاهرة”، ولا توجد على الإطلاق ظاهرة مجرّدة، لا ظاهرة بلا مقدّمات ومسالك وأسباب.
المفارقة أنّ ظاهر هذه المشكلة أو مشكلة هذه الظاهرة أنّها لا تحدث في “أوروبا” بسبب عدم الاستقرار بل بسبب الاستقرار!.
العوالم الجديدة المستقرّة مادّياً والمستبدّة تشريعياً التي أمّنت لهؤلاء النساء وللفتيات أيضاً هذه الأوضاع الجديدة التي لم تكن متاحة لهنّ في عوالمهنّ السابقة، كانت سبباً رئيساً في أغلب الأحيان لاتّخاذ قرارات الانفصال أو الطلاق أو الانكفاء، وليس للأسباب النمطية السائدة في المجتمعات القديمة، وبالنسبة للزوجات السوريات ما بعد الثورة والحرب فليس بسبب ما أفضى إليه ذلك من تشرّد ونزوح وفقر وقلّة حيلة، بل يبدو أنّ الزوجات السوريات والأزواج السوريين في الداخل السوري أصبحن وأصبحوا أكثر تمسّكاً بالعُرى العائلية والأسرية وأكثر التفاتاً إلى مسألة الالتزام بعقودهنّ وعقودهم الاجتماعية والأخلاقية قبل التزامهنّ والتزامهم بالروابط القانونية والشرعية، ولا يفسّر ذلك غالباً سوى أنّ الخوض المشترك في المعاناة قد خلّف هذا الأثر كردّة فعل نفسية طبيعية تجاه الظروف الصعبة والأليمة التي أصابت المجتمع والأسرة السورية في الداخل بمقتلة رهيبة.
الظاهرة التي حدثت إذاً هي أنّ جوّ أو بيئة الاستقرار النسبي أو الجيّد الذي عاشه السوريون عموماً والسوريات من الزوجات خصوصاً في المجتمعات الجديدة في أوروبا ( وفي تركيا إلى حدّ ما) كانت سبباً دافعاً لحدوثها إن لم نقل سبباً رئيسياً لذلك، وبالطبع فإنّ أسباباً أخرى قد أثّرت بأشكال مختلفة، لكنّ من هذه الأسباب ما هو حقيقي بالفعل ومبرّر أيضاً، ومنها ما هو ليس كذلك أبداً لأنّه يدخل في خانة الذرائع والحجج فحسب، ففي الوقت الذي تعلّقت فيه الكثير من الزوجات السوريات بالأحوال والمكتسبات والقوانين الجديدة لإنهاء سنوات من علاقاتهنّ الزوجية أو الأسرية لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو أسرية كنّ تعانين منها سابقاً فحانت الفرص لهنّ كي تتخلّصن من هذه الأعباء، سنجد في جانب آخر أنّ الكثيرات منهنّ قد تمسّكن بهذه الأحوال والمكتسبات والقوانين من أجل الخلاص فقط، ولأسباب ذاتية لا يمكن التكهّن بها في الكثير من الأحيان، وهنا الطامّة، لأنّ ذلك يعني ببساطة -ويا للأسف- أنّ مسألة الإخلاص لمؤسّسة الزواج وللأبناء والأسرة لم تكن سوى مسألة شكلية، وأنّ ما كان يمنعهنّ من القفز فوق هذا الاعتبار الإنساني الأخلاقي لم يكن سوى عدم توفّر الفرصة المناسبة للانفلات!.
لسنا ضدّ المرأة وحقوقها ولسنا ضدّ المساواة، بل إنّ لهاتين المسألتين الأثر الأكبر في إنتاج حياة أسرية صحّية وفي إنجاح العملية التربوية داخل الأسرة وخارجها، لكنّ الحديث عن مسائل الحقوق وقضايا المساواة لا يمكن أن يمضي هكذا وحده دون الحديث عن مسائل الواجبات وقضايا الالتزام بالأدوار الاجتماعية الطبيعية لكلّ من الزوجة والزوج، وبعيداً عن مفاهيم القيم وأساليب التعايش وقريباً جدّاً من المنطق يأتي السؤال: لماذا الآن؟.
ربّما تمّ توضيح جزء من الإجابة على هذا السؤال، الجزء الذي يقول: الآن.. بسبب الاستطاعة على فعل ذلك حين تغيّرت الظروف، ظروف الحياة والعائلة والزوجة، وأصبح بالمقدور استغلالها، ولأسباب مفهومة وأخرى غير مفهومة بل مفهومة أيضاً لكنّها مُزعجة وخطيرة، أمّا الجزء الآخر من الإجابة فهو أنّ المجتمع السوري وبرمّته كما يبدو لم يكن على قدر معتبر من التماسك والتجانس، وأنّ الكثير الكثير من الأسر السورية لم تكن على قدر كبير من التوازن والانسجام، وأنّ المرجعية الدينية والمجتمعية ومنظومة القيم والأعراف والعادات والتقاليد كانت المحرّك الأساسي لاستمرار العلاقات الأسرية.
والسؤال النتيجة أخيراً: كيف أمكن لهؤلاء النساء السوريات المتزوّجات اللواتي عشنَ قبلاً تحت ظروف الموت والقهر والقصف والحصار، فكانت أسباباً للصمود والوفاء والاستبسال في الدفاع عن بيوتهنّ الخربة، أن يستشرسن حين صُيّرت لهنّ ظروف النجاة والطمأنينة والاستقرار في هدّ بيوتهنّ هدّاً؟.