fbpx

عن الخلط بين بعض المفاهيم والمصطلحات

0 350

كثيراً ما يتم الخلط بين جملة من الألفاظ والمصطلحات على أنها تنتمي إلى عائلة واحدة. فتصاب العملية الكتّابية بانتكاسات وغموض بالمعنى السياسي والفلسفي، هذا عدا التغيير الجذري الذي يُصيب الفكرة المُراد إيصالها للقارئ؛ فالشرح والتفسير للكلمة الواردة في الجملة تخرج عن السياق المستهدف. في ذلك تشرح “حنة أرندت” عبر مؤلفها “في العنف” جملة من هذه التجاوزات على عالم الكتّابة والفلسفة السياسية، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر المعاني السياسية خلف مصطلحات (السلطة، القدرة، القوة، السيطرة، العنف) من حيث هي ظواهر مختلفة عن بعضها بعضاً وهي ذات قضية منظور تاريخي لا يجوز استخدامها على أساس كونها مترادفات؛ لأنه يكشف ليس فقدان الحساسية إزاء دلالاتها اللغوية فحسب، إنما يشهد جهلاً مؤسفاً للحقائق التي تحيل هذه اللغة إليها. خاصة وأن خلفية الخلط في ردّ هذه التعريفات إلى منبه واحد إنما هو قناعة صارمة بأن لا تمايزات بينها، وإن وجدت إنما ستكون نسبية ضئيلة فحسب. تلك القناعة التي تستمر في الإجحاف بحق الفكر والثقافة، فتقول إن محور المواضيع السياسية إنما يتمحور حول السؤال الرئيس من يحكم الآخر؟ في حين أن هذه المصطلحات بمثابة الدلالة والرمز إلى الآليات التي يحكم بها الإنسان نظيره، فيُخلط بينها على أساس أنها تحمل المعنى نفسه، كون وظيفتها متشابهة وأحياناً متطابقة. في حين أن مشكلات الإنسان لها سمات أصلية ومتنوعة تعود في المصدر والأصل إلى تلك المصطلحات الخمسة، وبمجرد حصر الشؤون العامة بقضية السيطرة، حتى تعود مشكلة شرح تلك المصطلحات للظهور والإعلان عن نفسها مراراً. وربما بات لِزاماً شرحها بما يتناسب ودلالاتها الاستعمالية.

فالسلطة: هي قدرة الإنسان على الفعل المتناسق. حيث لا سلطة بخاصية فردية فقط. إنما هي في الأصل جماعية، تبقى هذه السلطة قائمة مادامت المجموعة موجودة مع بعضها بعضاً. فالإشارة إلى شخص على أنه في السلطة إنما يشير إلى أنه قد سُلط من قبل جماعة أو عدد من الأفراد، لكي يفعل باسمهم، وما إن تزول الجماعة التي دفعت بالفرد صوب السلطة حتى يقال إن لا سلطة دون جماعة أو شعب. بل ستختفي سلطة المتسلط، والمقصود بالتركيب الأخير هو القدرة خارج إطار المجاز المستعمل للدلالة على رجل ذي سلطة.

في حين أن القدرة: هي الشيء المفرد أو كينونة فرد وهي ما يخص شخصية فردية بملكاتها وقدراتها، وتسعى للتعبير والبرهان عن ذاتها في كل نوع من العلاقة مع الآخرين، لكنها تسعى دوماً لتكون في جوهرها مستقلة عنهم. لكن قدرة الفرد الأكثر مقدرة يمكنها أن تنهزم دائماً من قبل الكثرة، لمجرد تدمير صاحب القدرة وتحديداً بسبب استقلاليته الخاصة. وحالة العداء التي تظهره الكثرة في إزاء الواحد هي غريزية بطبيعتها، وعُزي منذ أفلاطون حتى نيتشه إلى الحقد والغيرة التي يبديها الضعيف إزاء القوي، وخارج هذا التفسير النفساني فإن طبيعية الجماعة وسلطتها تقفان ضد الاستقلال الذي هو خاصية القدرة الفردية.

أما القوة: وهي أكثر الكلمات شيوعاً يومياً. وهي تقترب من معنى العنف إذا كان وسيلة للإكراه، وتلجأ جماعة ما إلى استخدام القوة لترسيخ العنف الممنهج بغية فرض قوتها دون وجه حق. لكن كلمة القوة كلغة اصطلاحية لــ “قوى الطبيعية، أو قوى الظروف” فإنها تعرف بالطاقة الناتجة عن الحركات الطبيعية أو الاجتماعية. وهي بذلك تخدم الإنسانية والبشرية وليست جزءاً من عمليات المحق والسحق الذي يُستخدم من قبل رواد وجماعات العنف.

وعادة ما تشهد السيطرة/التسلط، في غالب الأحيان تعريفات مختلفة والتباساً معقداً فتصبح عرضة لسوء الاستخدام اللغوي. خاصة وأنه يحمل أنواعاً عديدة، منه الشخصي كعلاقة الزوج وزوجته، المدرس التلميذ، أو حتى المؤسسات السياسية كالبرلمان أو ما في حكمها. وثمة تسلط رجل الدين على المؤمنين، أو السياسي على القواعد الحزبية، وخاصة أن هدف التسلط هو طلب الخضوع غير المشروط، ويتولد عن ذلك قيام الخاضعين بتنفيذ ذلك دون أي شرط، أو إقناع للتنفيذ. هذا التسلط يفقد قواه ومفاعيله حين يُسيء المُتَسلِط استخدام حالة خضوع الآخر له. لأن الإبقاء على السطوة تتطلب شيئاً من احترام الآخر الخاضع، سواء أكان شخصاً أو مؤسسة، فإن العدو الأكبر للتسلط هو الاحتقار، وأكبر خطر لنسف التسلط هو الضحك الساخر. 

إلا أن ما يميز العنف، أنه ذو طابع أدواتي ربما يبدو قريباً من القدرة، خاصة وأن أدوات العنف صُممت واستخدمت بهدف مضاعفة القدرة حتى تحل محلها في آخر مراحل تطورها. بيد أن العنف لا يختبئ خلف قناع التسلط، لأنه يطالب لنفسه باعتراف فوري وغير مشروط. فالسلطة أو التسلط يمكن أن تنهار أو تتدهور في العلاقات الاجتماعية لدرجة أن تعجز عن القيام بعملها حتى ولو بشكله المنحرف. فيكفي أن تصر جماعة ما على رفض قاسٍ لقرار السلطة في أي موضوع حتى تبدأ هيئة السلطة بالتصدع فتلجأ للعنف للتعبير عن غضبها وانتقامها، هنا يكون ثمة تآلف بين السلطة والعنف، يمكن العثور عليهما معاً في شكلهما الأكثر تطرفاً. لكن دون أن نقول عن السلطة والعنف إنهما شيء واحد.

إذاً يتم النظر والتفكير بالسلطة من منطلق الأمر والطاعة، وهي تجليات السلطة لكن لا يجوز الخلط هنا وفق ذاك بين السلطة والعنف، فسلطة الحكم تسعى للفرض بشتى الوسائل والسبل، لكن ما إن تعجز عن السيطرة حتى تلجأ إلى العنف، خاصة وأن العنف سواء عبر صعيد العلاقات الخارجية للدولة، أو الشؤون الداخلية، هو الملجأ الأخير للسلطة للإبقاء على بنيتها غير ممسوسة في وجه المتحدين الأفراد – العدو الخارجي أو الرافض المحلي الذي يُنظر له على أنه مجرم، حينها يتحول العنف إلى شرط أولي لوجود السلطة.

يبدوا أن الراهنية السياسية لم تصل بعد إلى مرحلة فك التشبيك بين خيوط الاختلاط التفسيري للكلمات الأساسية الخمس التي وردت أعلاه. وتالياً فإن غياب علم خاص بعلم المصطلحات وتفسيراتها، يوقعنا في مطب لا نحسد عليه، فتتحول هذه المفردات إلى كلمات لا تعطي معنى صحيحاً في اللغة الدارجة.

بالمجمل فإن الساحة السياسية أصبحت خليطاً بين الأفكار المستوردة، والقيمة المعرفية الغائبة عن المشاريع البحثية والفكرية. إلى ذلك فإن استمرار الخلط بين المصطلحات تبدو أنها آخذة بالتنامي والارتقاء على سلم غياب النتائج المتوقعة من منهل الأجيال القادمة لهذا الخلط والشطط غير المبرر.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني