عن “التوافق والصراع” في سوريا.. تقدير موقف
لم يُسجّل التاريخ السوري الحديث والمعاصر مستوى من الصراع على نحو ما صارت إليه الحالة في العشرية الأخيرة، حيث وصل الصراع إلى أعلى مستوياته، وزاد في صفاته إلى تعددية مجالاته، إذ تجاوز الميدان السياسي إلى صراع مسلّح ووسط المجالين شهد فصولاً من صراعات اقتصادية واجتماعية، ليصل إلى مستوى من صراع شامل، ولأن بدأ في معظم تجسيداته باعتباره صراعاً أفقياً بين نخبة النظام الأسدي والأكثرية السورية، فإنه ظهر في بعض الأحيان وبعض المناطق باعتباره صراعاً عمودياً بين مكونات الجماعة الوطنية.
حالة الصراع الحالية، وإن تفردت في حدتها وفي امتدادها الزمني وسعتها الجغرافية، هي جزء من التاريخ الممتد في القرن الماضي الذي رسمت فيه ملامح الكيان السوري على الصورة التي نعرفها، وهو الوجه الآخر الذي توافقت المكونات على العيش فيه وفي إطاره ليكون وطناً للسوريين، رسمت ملامحه الأولى توافقات بريطانية – فرنسية للسيطرة على شرق المتوسط بين الدولتين في اطار ما سُمي بـ”معاهدة سايكس – بيكو” وهي معاهدة سرية وقّعتها فرنسا والمملكة المتحدة 1916 بمصادقة روسيا وإيطاليا على اقتسام المنطقة، والتي جعلت سوريا ولبنان تحت السيطرة الفرنسية، وفلسطين والأردن تحت السيطرة البريطانية.
الحديث عن التوافق والصراع في سوريا حديث عن الدروس والخلاصات في وقت تتناقص التوافقات وتتنامى الصراعات
وقد تعرّضت المنطقة إلى هزات متعددة قبل أن يستقر وضع سوريا على ما نعرف، حيث جرت تسويات بريطانية – فرنسية في مناطق شمال شرق سوريا، ضمت الموصل إلى العراق عام 1918، ومنها تخلي فرنسا عن أجزاء من شمال سوريا والحاقها بتركيا، كان آخرها لواء اسكندرون عام 1939، وجرى توليد الكيان اللبناني عام 1920، بضم الفرنسيين الأقضية الأربعة إلى “جبل لبنان” مشكلين جمهورية لبنان، غير أنّ مشروع دويلات عام 1920 لتقسيم سوريا عبر دولة حلب ولواء اسكندرون ودولة العلويين ودولة دمشق ودولة جبل الدروز، لم يقيض له النجاح، حيث توحدت الدويلات تباعاً قبل قليل من اندلاع ثورة السوريين الكبرى ضد الفرنسيين (1925-1927).
لقد عكس تطوّر الكيان السوري في الوحدة والانقسام فكرة التوافق والصراع في سوريا وحولها. ففي الحالتين كانت توافقات وصراعات، وكان أبرزها حول سوريا، صراع الحلفاء الرابحين الحرب العالمية الأولى حول اقتسام شرق المتوسط من مناطق السيطرة التركية، ثم توافق فرنسا وبريطانيا على اقتسام المنطقة، وكان أبرز تجليات التوافق والصراع السوري في الداخل توافق مكونات الجماعة الوطنية على الانخراط في كيان واحد، بهوياته القومية – عرب وأكراد وتركمان وشركس وأرمن – وتنوعاته الدينية – مسلمون ومسيحيون ويهود بتنوعاتهم المذهبية -، وقد عبر التوافق عن نفسه في تشكيل وانتخاب المؤسسات التمثيلية وأولها المؤتمر السوري 1919، ومثله تجارب الجمعيات التأسيسية والبرلمانات، كما ظهر في إطار التوافقات تشكيل جماعات سياسية بألوان أيديولوجية وسياسية، وأخرى مدنية متنوعة الأهداف والغايات.
ومثلما كان التوافق واحداً من ملامح الكيان السوري، كان الصراع أبرز الملامح الأخرى، وقد تواصلت على مدار القرن الماضي صراعات، ارتبط أكثرها بعوامل وتدخلات خارجية إقليمية ودولية، أبرز المؤثرين فيها إسرائيل وتركيا ودول عربية، إضافة إلى فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وقد تصاعدت تدخلات الأخيرة في الشرق الأوسط وسوريا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد زاوجت في تدخلاتها بين التدخلات السياسية والعسكرية، وكان في إطار الثانية حروب أهمها مع إسرائيل عام 1948، إضافة إلى الانقلابات العسكرية، التي كانت سوريا أول ساحاتها في الواقع العربي بانقلاب حسني الزعيم 1949.
ما يجري الآن في سوريا أشد خطراً وتأثيراً بسبب محتويات التدخلات وقدرات المتدخلين من الأطراف الإقليمية والدولية
الأبرز في تجليات الصراع السوري تُمثّله التناقضات الأيديولوجية والسياسية، التي هزّت الواقع السوري في تكويناتها القومية واليسارية والإسلامية، والتي كانت سوريا بين أول ساحات تشكّلها في المنطقة، وأهمها حراكاً، وقد خاضت تلك التكوينات صراعات عنيفة فيما بينها تشاركت فيها جهات بينها دول عربية منها المحور الهاشمي الأردني – العراقي، والمحور السعودي – المصري الذي كان له الحضور الأقوى في سوريا.
والحديث عن التوافق والصراع في سوريا، ليس حديثاً عن التاريخ الذي مكانه المتاحف ودور الوثائق التاريخية والكتب. إنما حديث عن الدروس والخلاصات في وقت تتناقص وتتراجع التوافقات السورية، وتتنامى الصراعات، والأمر في الحالتين ناتج عن عوامل وتدخلات خارجية على نحو ما كان يحصل في عقود القرن الماضي، لكن ما يجري الآن أشد خطراً وتأثيراً بسبب ظروف ومحتويات التدخلات، وقدرات المتدخلين من الأطراف الإقليمية والدولية وبخاصة روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة.
دور السوريين في تجاوز الأحوال الراهنة ممكن إن عززوا وحدتهم وتقاربهم وأحسنوا قراءة الواقع
والعامل الثاني في تدني التوافقات، وتنامي الصراعات في سوريا هو دور السوريين الذين خضعوا لأكثر من خمسة عقود لسلطة الاستبداد والإكراه الأسدي، وإثبات غالبية نخبتهم ضعفها في مواجهة مهماتها، وانفصالها عن الأكثرية، والركض خلف مصالحها الضيقة ولا سيما في البحث عن مكاسب رخيصة أو الارتهان والتبعية لقوى خارجية والسير في ركابها ووفق أجنداتها.
وإذا كان من الصحيح، أنّ وضع السوريين وقضيتهم صار في أصعب أحوال مرت عليهم في التاريخ الحديث والمعاصر، فإن من الصحيح أيضاً أنّ دور السوريين في تجاوز الأحوال الراهنة ممكن، بل إنه ينتظرهم، إن عززوا وحدتهم وتقاربهم، وأحسنوا قراءة الواقع، ورسموا مسارات تؤدي إلى تغييره وفق خطط مراقبة ومدققة وقابلة للتعديل، وهذا لن يوصلهم إلى تعزيز قدراتهم فقط، بل سيساهم في تغيير البيئة الإقليمية والدولية المحيطة بهم، ويعدل سياسات أطرافها حيال القضية السورية ومستقبلها.
نشرت في موقع عروبة 22