عن اشتراكية مازالت بعيدة
تبرز الشعارات والأفكار الاشتراكية في خضم أي أزمة تعيشها المجتمعات الرأسمالية المسيطرة، حاملةً معها أحلام وآمال شرائح مجتمعية كبيرة، ممن يجدون في هذه الأزمة أو الأزمات دليلاً جديداً على فشل النظام الرأسمالي، وتعبيراً واضحاً عن ضرورة الانتقال منه إلى نظام أكثر عدالة وتكاملاً وإنسانية، وهو ما يتمثل بالاشتراكية. كما تعزز بعض الأخبار المتداولة من هذه القناعات والقراءات المتسرعة، كاستعادة قراءة مؤلفات ماركس والماركسية عموماً في أوساط المجتمع الأوروبي والعالم بشكل كبير وملحوظ، كما حدث في أعقاب الأزمة الاقتصادية عام 2008، وبحكم إقرار بعض الكتاب والمفكرين الغربيين خصوصاً بصحة تحليلات ماركس أو جزء منها. لكن يبدو أن المستقبل أكثر تعقيداً من استقرائه بهذه السهولة والتسرع، فالأزمات الرأسمالية المتلاحقة لا تجعل من نهاية الرأسمالية حتمية تاريخية تلقائية، لأن هناك قوى ومصالح وأطراف تتمسك بها وتدافع عنها بكل الجهود والإمكانيات والقدرات التي تمتلكها، لذا فهي تعمل بشكل يومي – أي الرأسمالية – على إيجاد مخارج عملية وحلول، تتيح لها تجاوز أزماتها المتجددة والدورية بأقل الأضرار الممكنة.
وعليه ونظراً لرفض نمط التفكير المثالي أياً كان، ومنه اعتبار الاشتراكية حتمية تاريخية لا يلعب العامل البشري أي دور يذكر بحدوثها أو الحؤول دونها؛ التي عالجها المفكر الماركسي سلامة كيلة في الكثير من كتاباته وأعماله؛ على الرغم من مئات الأمثلة التي تبرز سلبيات النمط الرأسمالي، لاسيما بصورتها الأكثر توحشاً السائدة اليوم. إذ أعتقد أن تحول النمط السائد عالمياً من الرأسمالية إلى اشتراكية علمية؛ تتضمن إيجابيات النمط القديم وتتفادى سلبياته بشكل تلقائي، على اعتبارها مرحلة من مراحل التطور البشري الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، مجرد أحلام غير قابلة للتحقيق في المدى المنظور. وذلك نتيجة اقتصار الطرح الاشتراكي نظرياً وتنظيمياً وعملياً على كتابات المفكرين الأوائل كماركس وإنجلز ولينين، فمن ناحية أولى لم يتم العمل على تطوير النظرية الاشتراكية بما يواكب تطورات العصر وحاجات الإنسان المعاصر، كما تندر القراءات النقدية والجدية لتجربة الاتحاد السوفييتي والصين وكوبا وغيرهم من الدول المعروفة بالدول الاشتراكية، والتي عادة ما يقتصر نقدها أو تحليل تجربتها على اعتبارها رأسمالية دولة، وبالتالي فهي ليست تجربة اشتراكية، وهو تحديد أو تحليل محق لكنه قاصر عن معالجة مئات القضايا والمشاكل التي نضحت بها التجربة، والتي تحولت نتيجة عوامل عديدة إلى سمات رئيسية ملتصقة بأي طرح اشتراكي مهما كانت الجهة أو البعد الذي يتناوله.
فقد غابت – أو ندرت – التحليلات المادية الجدلية التي تتناول التغيرات الحاصلة على وسائل الإنتاج وحجم الطبقات الاجتماعية وخصائصها، وبالتالي على دورها ووعيها وإمكانية المراهنة عليها من عدمها، مثل قطاع الإنترنيت والمعلومات والتبادل المعرفي والتقني الحديث القائم على إنتاجية ذات طابع فردي، وهو ما يعزز فردية المجتمع بدلاً من تعزيز وتطوير آليات العمل الجماعي، على نقيض العملية الإنتاجية التقليدية الصناعية. كما يحظى العديد من العاملين في قطاع الإنترنيت والمعلومات وخدماته وتطبيقاته بمردود مالي جيد، يصل في الكثير من الحالات إلى الضخم والمبالغ به، ما يجعل من الصعب تحديد موضعهم الطبقي وفق التقسيمات التقليدية بين مالكين لوسائل الإنتاج وغير مالكين. كما يؤدي هذا الخلل في مواكبة المتغيرات إلى العجز عن وضع تصورات اشتراكية لهذا المجال الاقتصادي وللعاملين فيه والمستفيدين منه، وهو ما يطال الغالبية العظمى من سكان الكوكب.
كما تحاشى الاشتراكيون مواجهة القضايا المفروضة عليهم بفعل التجارب التاريخية المصنفة بالاشتراكية وبفعل نقد منظري الرأسمالية لهذه التجارب وللاشتراكية عموماً، ولاسيما بما يخص المسألة الديمقراطية، ودور الدولة والفرد، والحرية الفردية والجماعية، والتنوع الفكري والسلعي. وهي من المسائل والقضايا المحورية اليوم وخصوصاً في أوساط الطبقة الوسطى، ولدى شرائح شعبية واسعة في الدول الرأسمالية المتطورة من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، حتى في أوساط الطبقة العاملة التي تعتبر حامل المشروع الاشتراكي الرئيسي وربما الوحيد. حيث تذكر الطبقات والمجتمعات الأوروبية عموماً إنجازات وميزات دولة الرفاه الاجتماعي التي بلغتها بعض الدول الرأسمالية؛ بغض النظر عن طول مدة هذه التجربة؛ فهي حاضرة في الأذهان بقوة ووضوح، وأحياناً تستعيدها الذاكرة بصورة مبالغ فيها تتجاوز الواقع السائد في حينه، لتصورها نقيضاً جميلاً للصورة النمطية الراسخة في الأذهان أيضاً عن طبيعة النمط الاشتراكي السائد في كل من الصين والاتحاد السوفيتي وباقي الدول المحسوبة على المحور الاشتراكي. لذا لا يكفي نقد التجارب التاريخية الاشتراكية ولاسيما بما يخص المسائل الديمقراطية، بل لابد من تقديم طرح متكامل وواضح عن كيفية تطبيق الديمقراطية الاشتراكية وضمان عدم تحولها إلى ديكتاتورية دولة أو حزب أو مجموعة فئوية.
وكذلك يمكن تطبيق ذات المعالجة على القضايا المتعلقة بدور الدولة اقتصادياً واجتماعياً، وبالتالي حول دور المجتمع في إدارة شؤونه بكفاءة ومسؤولية عالية، دون تواكل وتكاسل واستهتار، وهي من القضايا الإشكالية التي لم يتمكن الاشتراكيون حتى اللحظة من معالجتها فلسفياً وأخلاقياً وقانونياً، بعيداً عن الاستشهاد ببعض التجارب المحدودة والفئوية التي نجح بها العمال في بعض المقاطعات أو المدن أو المعامل من إدارة حياتهم الاجتماعية والمهنية بكفاءة عالية لفترات زمنية محدودة. فمن الضروري اليوم العمل على تقديم طرح متكامل لهذه المواضيع كي نتجاوز سلبيات التجربة الصينية والسوفيتية الاستبدادية والبيروقراطية الراسخة في الأذهان، ومن أجل تقديم تصور اشتراكي معاصر يحمي الحريات الشخصية والسياسية، ويكفل صيانة عجلة الإنتاج، كما يكفل تطورها وتقدمها وتنوعها، بما يلائم ويلبي الحاجات الإنسانية الرئيسية والكمالية ويضمن تنوعها.
طبعا يحتاج الطرح الاشتراكي إلى معالجة العديد من القضايا الأخرى قبل أن يستعيد مكانه كطرح قابل للتطبيق واقعياً، فضلاً عن معالجة أوجه الانحراف التنظيمية التي تعاني منها الأحزاب والقوى اليسارية والماركسية، التي حولت جل اهتمامها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي نحو قضايا لا تمس جوهر النمط الرأسمالي؛ على أهميتها؛ كالعلمانية والمساواة بين الرجل والمرأة وحقوق الأقليات الإثنية والطائفية والاجتماعية على تنوعها، حتى وصل بها الحال إلى تأييد الديكتاتوريات الاستبدادية والإجرامية بذرائع واهية، كنتيجة لفقدان بوصلتها النضالية ورؤيتها المتكاملة. لذا ونتيجة كل ذلك أعتقد من الخطأ التكهن اليوم بزوال الرأسمالية واستبدالها بالاشتراكية كنمط سائد عالمياً، على الرغم من كل ما يحصل، وذلك مرده إلى حاجة الطرح الاشتراكي إلى استكمال مشروعه وتحليل الواقع المعاصر بحرية وأمانة علمية بعيداً عن القولبة والتصورات المسبقة والجاهزة.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”