عندما نرقص ألماً في ذكرى رحيل حارس الثورة
مرّت بنا الذّكرى الثّالثة لرحيل منشد الثّورة وحارسها عبد الباسط السّاروت، الذي يعيد بذكراه كلَّ من سبقوه ولحقوه، السّاروت الثّائر غير العادي والشّهيد غير العادي شهيد تميّز حتى بشهادته، برحيله، وبذكرى رحيله تعود لنا سنوات الثّورة بآمالها وآلامها، بأهازيج النّصر وصلوات التّشييع، بغضبٍ، توارى ببسمة ثائر ووصيّة شهيد.
حارس الثورة ومنشدها وأول من ركب موجة الحرية
برحيله نسترجع أحد عشر عاماً نسترجع البداية الجميلة بشدوه ورقصه على مسرح الحياة، نستعيد الخذلان والقهر، نستعيد الأمل ونستذكر وصاياه ونسترجع مناخ الترقب والخوف والانتظار لشرارة أضاءت لنا لنرى الساروت ورفاقه.
فما إن بدأت رياح التّغيير تعصف بأنظمة الدّيكتاتوريات العربية حتى وصل تأثيرها إلى سوريا الأكثر أهليّة للقيام بثورة تجتثُّ الظّلم والطّغيان واحتكار السّلطة على مدى أربعة عقود، بالإضافة لانتشار الفساد بكافة مناحي الحياة العامّة والسّياسية.
لم يكن المناخ متاحاً بعد للقيام بثورة بالتّزامن مع انتصار ثورتي مصر وتونس بسبب القبضة الأمنية المشددة.
ومع ذلك حاول بعض النّاشطين تنظيم وقفات تضامنية مع ثورة 25 يناير واجهتها قوى الأمن وفرق الشّبيحة بالقمع ومن ثمّ إغلاق سوق الحريقة في العاصمة دمشق إثر إهانة عنصر أمن لابن أحد التّجار ليصدح السّوريون بأول هتاف “الشعب السّوري ما بينذّل”.
ومنها إلى اعتصام أمام السّفارة الليبية مرددين هتاف “اللي بيقتل شعبه خاين” في إشارة إلى القذافي لكنَّ فراسة عناصر الأمن السّوري تعي المقصود، ليعتدوا على المعتصمين ويعتقلوا بعضهم.
كان الصّمت والتّرقب يخيّم على الشّارع السّوري لا يبدده إلا مكبرات صوت الدّوائر الحكومية التي تصدح بالأغاني الوطنية وأقوال الأسدين المأثورة.
بات السّوريون ينتظرون شرارة البدء وبدأت التّكهنات بموعد انفجار الغضب السّوري فيما سميَّ بجمعة الغضب التي دعا إليها ناشطون عبر مواقع التّواصل الاجتماعي، لتأتي الجّمعة تتلوها الجّمعة ولا غضب ينفجر ولا شارع يثور، إلا الشّارع المؤيد المستفيد الذي يغصّ بين الحين والآخر بسيارات أبناء الضّباط والمسؤولين حاملين الأعلام وصور بشار هاتفين “أبو حافظ الله يحميك”.
تُعرض المسرحية وسط وجوم المتفرّجين من الأغلبية الصّامتة التي لم تجرؤ بعد على الصراخ، متسائلين بسرّهم أهكذا يغضب السّوريون؟.
وبات يوم الجمعة هو المنتظر ليسمع السّوريون صوتاً يردد “الشّعب يريد” أخبار شحيحة تنقلها العربية والجّزيرة تُتابع بحذر وبصوت تلفاز منخفض فللجدران السّورية آذان.
وبتاريخ 18 آذار 2011 تأتي الجّمعة الموعودة، جمعة الكرامة التي انتهكها عاطف نجيب وصبيانه حين توجّه إليه وجهاء درعا وأعيانها لحل مشكلة أطفال كتبوا بأصابعهم الهشّة على جدران مدرستهم عبارات محرّمة في جمهورية القمع، لتكون العقوبة اقتلاع أظافرهم وإهانة وجهائهم واستفزاز كرامتهم.
وتنطلق شرارة الثّورة السّورية من درعا بمظاهرة حاشدة ضمّت الآلاف احتجاجاً على الاعتقالات والقمع مرددين هتافات تنادي بالحرّية والكرامة.
قوبلت المظاهرة بالرّصاص الحي لتقدّم درعا أول شهداء الثّورة السّورية” محمود الجوابرة”، وتتبعها جمعة العزّة، وتعمّ المظاهرات الأراضي السّورية كافةً، بمدنها وقراها، وتصدح الحناجر بكلمة حرّية بعد قمع دام أربعين سنة.
خرجت المظاهرات بنداء موّحد على كل التّراب السّوري “سلمية سلمية” و”الشّعب السّوري واحد”، بدعوى منه لنبذ الفرقة والطّائفية التي بذل النّظام جهده لتكريسها عندما جعل منها الطّابع المهيمن على أجهزة الدّولة.
وتستمر المظاهرات رغم القمع الأمني ورغم احتمال اعتقال أي متظاهر وقتله، ويزداد زخمها ويتكاثر روّادها من أطفال وشباب رجال ونساء وتستشرس قوى الأمن بقمعها رغم سلميّتها.
ويستنفر الإعلام السّوري ليكذّب انطلاق ثورة في جمهورية اللون الواحد ويعتبرها أعمال شغب ومجموعة من الخارجين عن القانون المنفّذين لأجندات خارجيّة هدفها النّيل من سيادة الدّولة، وربّما تجمّعوا ليشكروا الله على نعمة المطر كما حدث في حي الميدان حسب زعمه.
وعندما لم يجد بدّاً من الاعتراف بأنها ثورة، تنطق بثينة شعبان بعد صمتها بأنها ثورة طائفية مستخدمةّ ألفاظ تهيّج الشّارع ليأتي الرّد من حارس الثورة عبد الباسط السّاروت والممثلة الرّاحلة فدوى سليمان من الطّائفة العلوية في حي الخالدية بمدينة حمص هاتفين “واحد واحد واحد الشّعب السّوري واحد”.
ويهين سميح شقير ابن جبل العرب رأس النظام بأغنيته التي لامست شغاف القلوب “يا حيف”.
وكيف لها أن تكون ثورة شعب ولا يكون لـ “مشعل تمو” بصمته عندما أرسل رسالته من القامشلي بلد الوحدة الوطنية منادياً “ابصقوا بوجه جلادكم فالمستقبل لنا” فكان الرد، رد الجبناء، باغتياله في منزله.
“كيف بيكون عنا مستقبل بدون ما يكون عنا وطن حر” هو رد باسل شحادة المسيحي عندما سُئل عن سبب ترك دراسته الجامعية بأمريكا وعودته إلى حمص تحت القصف، ويستشهد باسل على تراب حمص ويُدفن بها ويشيعه عبد الباسط الساروت، اجتمع السّوريون بطوائفهم كافة ليدحضوا ادعاءات بثينة شعبان ونظامها مؤكدين أنّ ثورتهم ثورة شعب لا ثورة طوائف، مصرّين على سلميتها عندما قدّم غيّاث مطر زجاجات المياه مرفقة بوردة لمن جاء يقتل ويعتقل وأصرّ النّظام على تغليب الطّائفية على الثّورة، بعد فشله بقمعها بدس سمومه من خلال بعض المتسللين بين المتظاهرين وإطلاقهم لهتافات طائفية ووصل به الحال إلى قتل عناصره وإلصاق التّهمة بالثّوار، لم يكتف بذلك، بل قام بإصدار عفو عام لكنّه حصري لأصحاب السّوابق والمجرمين والمتطرفين ليفلتهم بين المتظاهرين وينفذوا خطته ويستثمرهم فيما بعد لتحقيق أهداف أقذر.
لم يعد الرّصاص الحي يطفئ حقد النظام، ليتحول إلى براميل متفجرّة يلقيها على الأحياء فتقتل الصّغير قبل الكبير، وليتحول من القتل الفردي إلى المجازر التي اتخذت الطابع الطائفي بصراحة ووضوح في الحولة والتريمسة والبيضا.
يأبى شرفاء الجيش المشاركة بالقتل فتبدأ سلسلة الانشقاقات ويشكّل الرائد حسين هرموش لواء الضّباط الأحرار ويزداد القمع الذي يجبر الثّورة على تغيير مسارها والاتجاه للعسكرة أمام ماكينة قتل يقودها النّظام لا تفرّق بين طفل وحامل سلاح، لاسترجاع سنوات الثّورة السابقة تخوننا الكلمات، فلا متّسع لوصف ثورة تحوّلت إلى ملحمة بتاريخ سوريا.
لكنّ الصّورة الأكثر التصاقاً بالذّاكرة الجّمعيّة السّورية هي صورة المظاهرات السّلمية التي انتهجت أسلوب الغناء والرّقص والنّكتة لإيصال الصّوت المخنوق وتفجير الغضب المكبوت لتظهر للعالم طبيعة السّوري الذي يفجّر غضبه بأغنية ورقصة لا بقتل وسفك دماء.
هي ثورة الأغاني التي تحاكي الواقع السّوري بآلامه وآماله، التي نشرها القاشوش لتتحول لازمة أغنيته “يلا ارحل يا بشار” إلى شعار يومي للثوار.
هي ثورة السّاروت عندما غنى جنة جنة، لم تسحرنا عذوبة صوته فحسب وإنّما الصّورة التي تحملنا إلى وطن مسروق ولدنا به غرباء.
سُرقت منّا الثّورة واغتصبت وتقاسمتها دول وأطراف وعصابات ولا زال الثّوار يتجمّعون منشدين “يلا ارحل يا بشار” وليرحل معه كل من يشبهه وكل من سرق ثورتنا.
سُرقت الثّورة ولا زال الثّوار يرقصون ألماً وأملاً.
بالأمس القريب رقص أبو رأفت مزداناً بعلم الثّورة، رقص باكياً حالماً آملاً أن يعود لبيته ومدينته سراقب التي هجرّه منها الاحتلال الرّوسي الأسدي.
لم يخلع أبو رأفت علم الثّورة بعد سنوات القهر والفقد والخسارات والتهجير بقي غطاءه ودثاره، رقص باكياً وأبكى كل من رآه، سيعاود أبو رأفت الرّقص وسيرقص معه كل ثائر ليجمع برقصه الواقع والحلم والوطن الضّائع، وليبق على الأمل الذي تمسّكت به مي سكاف في منفاها لترسله لكل ثائر قبل أن يواريها تراب الغربة “لن أفقد الأمل لن أفقد الأمل إنّها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد”.
واليوم وغداً وحتى انتصار الثورة سيقف ثوّار سوريا منشدين (جنة جنة) و(حانن للحرية حانن) مستنيرين بدماء السّاروت الذي كان في كل الأماكن، ومع الجميع كان يظهر بوسامته ووجهه المكشوف عندما كان الجميع يتخفى، دخل حمص حين هُجرت وغنى في “بابا عمرو” المحاصرة، حوصرَ وأُصيب، جاع ومرض، وعند استشهاده كانت وصيته الناس: “سيقف الثوار في ذكرى الساروت حتى رفع علم سوريا علم ثورة السّاروت”.