عندما تُغتال الجمهورية
إن الجمهورية ككيان سياسي ومفهوم فكري تقوم على ركائز الحرية، العدالة، والمساواة، وهي فلسفة تدفع نحو حكم الشعب نفسه بنفسه عبر ممثلين يختارهم بإرادته، وتحتكم إلى دستور يحمي حقوق المواطنين ويحدد مسؤوليات الدولة. في سوريا، كانت الجمهورية السورية ذات يوم عنواناً لعهد من الحكم المدني والدستوري، غير أن الجمهورية كسائر مقومات الدولة، تعرضت تدريجياً إلى التآكل والتحريف حتى باتت كياناً مشوهاً لا يمت بصلة إلى المبادئ التي كانت يوماً أساساً لها.
البداية: صعود حافظ الأسد والانقلاب على الجمهورية
بعد سنوات من عدم الاستقرار السياسي في سوريا والانقلابات المتكررة، صعد حافظ الأسد إلى السلطة في انقلاب عسكري عام 1970. ومع هذا الحدث، بدأت الجمهورية السورية تفقد جوهرها تدريجياً. حافظ الأسد، الذي كان قائداً عسكرياً وسياسياً، استخدم قوة السلاح لتثبيت حكمه، وعمل بمهارة على توطيد سلطته عبر القضاء على أي معارضة فعلية أو محتملة. وسرعان ما حول سوريا إلى دولة بوليسية يخضع فيها الشعب لسيطرة أمنية صارمة، وانتشرت المخابرات في كل زاوية ومؤسسة. لقد جعل من سوريا دولة يتحكم فيها فرد واحد، محاطاً بشبكة من القادة العسكريين والأمنيين الذين يدينون له بالولاء.
ومع ذلك، لم يكن هذا النظام قادراً على البقاء دون أن يبتلع الدستور ويعيد تشكيله ليتناسب مع طموحاته، فتم تفصيل مواد الدستور وفقاً لاحتياجات حافظ الأسد ومخططاته المستقبلية. هكذا، أُجهضت روح الجمهورية التي كانت يوماً مبنية على الدستور، وأصبح الدستور مجرد أداة يستخدمها النظام لتعزيز حكمه وتأمين بقائه.
توريث الجمهورية: توريث السلطة لبشار الأسد
في عام 2000، بعد وفاة حافظ الأسد، ورغم التحديات الدستورية التي كانت تمنع انتقال السلطة بشكل فوري إلى ابنه بشار، تمت تهيئة المسرح السياسي لهذا الانتقال بأسلوب مبتكر لكنه غير قانوني، حيث جرى تعديل الدستور بسرعة فائقة وخلال دقائق لتخفيض سن الترشح للرئاسة من 40 سنة إلى 34 سنة، وهو عُمرْ بشار آنذاك. وهكذا، انتقل الحكم في سوريا بشكل يشبه الملكيات المطلقة، وليس جمهوريات تؤمن بتداول السلطة وتبادل الرؤى من أجل مستقبل الوطن.
كان توريث السلطة في الجمهورية السورية انقلاباً صارخاً على المبادئ الجمهورية وحقوق الشعب السوري. ففكرة الجمهورية تتناقض كلياً مع فكرة التوريث، إذ تقوم الجمهورية على الاختيار الشعبي لا على الانتماء العائلي. هنا اغتيلت الجمهورية رسمياً، وأصبح النظام يشبه الملكية أو حتى الحكم الفردي، حيث يتمكن فرد واحد من التحكم بمصير الدولة لعقود طويلة دون أن يتمكن الشعب من مساءلته أو تغييره.
الدستور كأداة لخدمة النظام
لم يعد الدستور في سورية يعبر عن حقوق المواطن بقدر ما أصبح وسيلة لترسيخ سلطة النظام الحاكم. فتم تكييف الدستور ليخدم مصالح السلطة القائمة، حيث جرت تعديلات عديدة على مواده لتحقيق هذه الغاية. على سبيل المثال، تم تعديل الدستور بشكل يتيح للرئيس تمديد فترة حكمه دون قيود فعلية، فضلاً عن القوانين التي جعلت من “حزب البعث” قائداً للمجتمع والدولة، مما أحكم السيطرة على الساحة السياسية وحصر العمل السياسي بيد قلة من المقربين.
أصبح الدستور في سورية، الذي كان من المفترض أن يكون الحامي الأول لحقوق الشعب، مجرد أداة بيد النظام لتعزيز السيطرة وتحقيق الاستبداد. وبدلاً من أن يكون حارساً للقيم والمبادئ الجمهورية، تحول إلى وسيلة لتحصين القمع ومنع المعارضة.
أثر اغتيال الجمهورية على الشعب والمجتمع
عندما تُغتال الجمهورية، يكون الشعب أول من يدفع الثمن. فمع غياب العدالة والحرية والكرامة التي تشكل أساس الجمهورية، عاش الشعب السوري في ظل الخوف والقمع. أصبحت المعتقلات والسجون تعج بالمعارضين والمثقفين، وأصبحت أجهزة الأمن تتحكم في حياة المواطنين، وأُرغمت وسائل الإعلام على تزييف الحقائق وتمجيد النظام، حتى باتت الجمهورية السورية مجازاً للمفارقات والمأساة.
كما ساهم هذا الاغتيال في تمزيق النسيج الاجتماعي، إذ اتبع النظام سياسة “فرّق تسد” لزرع الشك والانقسامات بين أبناء الشعب، مما أدى إلى زعزعة التآخي الوطني واضمحلال الثقة. وأصبحت العداوات والإقصاءات وسيلة للنجاة والتعايش في مجتمع بات يمزقه الظلم والخوف.
علاوة على ذلك، أدى تراجع القيم الجمهورية إلى تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، إذ ركز النظام على ترسيخ سلطته على حساب دعم جماعات على حساب جماعات أخرى وعدم تطوير البلاد، فازدادت معدلات الفقر والبطالة، وتدهورت الخدمات الصحية والتعليمية، مما جعل الشعب السوري يفقد الأمل في المستقبل.