fbpx

عمر أبو ريشة.. شاعر الموقف والأسلوب

0 637

أحياناً تبدو الكتابة عن شاعر، كالخطيئة، خاصة إذا كان من نكتب عنه يتفجّرُ عذوبة ورقّة، حتّى كأنّ الكلمات السحريّة تنساب من بين أصابعه.

في منتصف الثمانينيات، وحين كنت في المرحلة الثانوية، أسرعت إلى جامعة حلب لحضور أمسية شعريّة، أرى فيها، لأوّل مرّة في حياتي، شخصاً نقرأ عنه في الكتب.

لقد كان حضوره متميّزاً، وأذكر أنّ الابتسامة لم تفارق شفتيه، حتى وهو يحدّثنا عن استيائه حين ذهب لزيارة المكتبة الوطنية بحلب ولم يعرفه أحد فيها، بالرّغم من أنّه ساهم في إنشائها وإدارتها فترة طويلة. هذا في حين تُخصّص لشعراء أوروبا أقسام خاصّة في المكتبات، تصنّف أشعارهم وما كتب عنهم وفيهم مع تأريخ لحياتهم ونتاجاتهم. وأذكر أنّني – يومها – تأثّرت كثيراً بما قاله وكأنّه يتحدّث عن حزيرانه الخاص سائلاً:

أمّتي هـل لـك بيـن الأمــمِ

 

منبر للسيــف أو للقلــم

مع أنّ سجلّه الخاص حافل بالانتصارات.

إنه الشاعر المجدّد عمر أبو ريشة، الذي يفكّر بالصّور، ويجسّد الوحدة العضويّة في قصيدة غالباً ما تدهشنا المفاجأة في بيتها الأخير بكثافة تبعث على الإعجاب.

وهذه قصيدة يعرّف بها عن نفسه:

تتساءلين على ما يحيا
الصابرون على الجراح
أنستهم الأيام ما
أزرت بدنياهم ولم
تتساءلين وكيف أعلم
امضي لشأنك اسكتي

 

هؤلاء الأشقياء
المطرقون على الحياء
ضحك الحياة وما البكاء
تترك لهم فيها رجاء
ما يرون على البقاء
أنا واحدٌ من هؤلاء

كان شاعرنابارعاً في الدبلوماسية، وصداقاته متعددة مع عظماء العالم في عصره، وقد نال الكثير من الأوسمة التي حصل عليها من أطراف العالم حيث كان يترك بصمة مهمة أينما حلّ وارتحل.

وعنه قال نهرو وهو يودعه (اليوم نودع القيم العظيمة للإنسان) ومنحه وشاح الهند بعد أن سمع ترجمة إنكليزية لقصيدته التي تصف معابد كاجوراو.

تميّز الشاعر بكثير من المواقف المشرّفة التي اتخذها من القضية الفلسطينية، فقد كان طوال حياته وفياً لها، يتغنى بطهر القدس ويندد بالصهاينة ويحمّل العرب وحكامهم المسؤولية كلها ويرى في الوحدة طريقاً إلى الخلاص، وكان دائماً يحمل الأمل بالنصر والتفاؤل بعودة الحق إلى أصحابه من خلال القوة والكفاح.

ومن مواقف الشاعر التاريخية أنه في عام 1937 م ألقى قصيدة في حفل تكريم المجاهد السوري إبراهيم هنانو وفيها عرّج على القدس وذكر عدوان اليهود عليها وتشجيع المحتل الإنكليزي لهم، فقال عن الإنكليز:

مدوا الأكف إلى شراذم أمة
ورموا بها البلد الحرام كما رمت
وبنوا لها وطناً وعبق محمد

 

ضجت بنتن جسومها الأمصار
بالجيفة الشط الحرام بحار
وابن البتول بأفقه زخار

وللشاعر قصيدة في رثاء سعيد العاصي الذي استشهد في جبل النار بفلسطين وهو ابن حماة، مما يؤكد وحدة الشعب العربي،

والقصيدة من روائع شعر الرثاء، وقد جوّد فيها عمر أبو ريشة وقدم فناً عالياً، ومنها قوله:

يا شهيد الجهاد يا صرخة الهول
كلما لاح للكفاح صريخ

 

إذا الخيل حمحمت في الساح
صحت لبيك يا صريخ الكفاح

وعندما يعلن العدو الصهيوني عام 1948م عن قيام دولة إسرائيل، ينفجر الغضب في قلب الشاعر ويرسل صرخته المدوية، وفيها يقول:

أمتي هل لك بين الأمم
أتلقاك وطرفي مطرق
أ لإسرائيل تعلو راية

 

منبر للسيف أو للقلم
خجلاً من أمسك المنصرم
في حمى المهد وظل الحرم؟

وقد كان الشاعر في كل مناسبة يذكر القدس، ما يدل على أنها كانت تعيش في ضميره ووجدانه، ومن ذلك رثاؤه للشاعر اللبناني الأخطل الصغير، وفيه يذكر القدس ويشير إلى الفدائيين فيقول:

كتائب الفتح في إعصار عاصفة
كتائب بالنضال الحق مؤمنة

 

بالحقد والغضب العلوي تنفجر
إذا الطواغيت من إيمانها سخروا

الشاعر المجلّي عمر أبو ريشة كان يُعنى بلغته وأسلوبه، ويجدد صوره، ويطلق خياله، ما يدل على صدق موقفه، وأصالة شعره، ونلاحظ شيوع نبرة الحزن في شعره على الرغم من تفاؤله بالمستقبل وثقته بالنصر، كما تبرز في شعره القيم ومعاني البطولة والفداء والإشارة إلى رجال من التاريخ أمثال خالد وصلاح الدين.

ومفهوم الوطن لديه يتوزع إلى المعنى الجغرافي الإقليمي، وإلى الوطن بمفهومه الحضاري الثقافي، ثم إليه بمعناه التاريخي التراثي كخزان عملاق للأمجاد والانتصارات. لقد احتفل الشاعر بالتاريخ العربي والإسلامي من خلال القصائد التي بثها عن شخصياته وأحداثه وبطولاته.

 لنقرأ القصيدة التي قالها في ذكرى إبراهيم هنانو:

وطن عليه من الزمان وقار
تغفو أساطير البطولة فوقه
فتطلّ من أفق الجهاد قوافل

 

النور ملء شعابه والنار
ويهزها من مهدها التذكار
مضر يسدّ ركابها ونزار

وكان الشاعر يفتخر بأمته ويذمّ المستعمرين واثقاً من أن الحق لابد أن ينتصر في النهاية:

إن للظلم جولة فدعيه

 

ربّ حاوٍ رداه في ثعبانه

إن أبعاد مفاهيم الوطن لدى الشاعر (أبو ريشة) عميقة حيث نرى تداخل الأبعاد الثلاثية في ذهنه حيث تتكرر تلك الرؤية الشعرية في قصائده، ما يدل على هيكلية بنائية تربط تصوراته في عقد ينتظم في قصائد الشاعر.

ومما يميّز الشاعر أنه انتقل من الصور التقليدية إلى الصور المبتكرة بشكل يتناسب والموضوع الذي يعالجه، ويتوافق والمناسبة. إنه ينتقي المفردات لتحمل أبعاداً متعددة ما يجعل لها وقعاً آسراً على المتلقي. وإذا أراد الشاعر الحديث عن وطنه الكبير، أنشد مالا يُنسى:

لمّت الآلام منّا شملنا
فإذا مصر أغاني جلّق

 

ونمت ما بيننا من نسبِ
وإذا بغداد نجوى يثربِ

وما يزال يتغنّى بأمّته مدركاً أنها مهد الحضارات ومبعث الأخلاق الحميدة:

من هنا شقّ الهدى أكمامه
وأتى الدنيا فرفّت طرباً
وتغنّت بالمروءات التي

 

وتهادى موكباً في موكب
وانتشت في عبقه المنسكب
عرفتها في فتاها العربي

ولم ينسَ أبو ريشة التغني بعظماء التاريخ العربي ليستحضر البطولة والمجد، ويحاول نفخ روح الحياة في الحاضر المهيض الجناح. ويركز على شخصية الرسول العربي في عدد كبير من قصائده، وعلى خالد بن الوليد، وعلى المتنبي، والمعري، وسيف الدولة. ولقد استطاع أبو ريشة أن يربط بين العظام في التاريخ القديم وفي التاريخ الحديث فيربط بين هنانو وخالد وطارق بن زياد، ويبين أسباب الهزائم الحديثة، نافياً عن الإنسان العربي أي ضعف أو خوف:

أنا من أمة أفاقت على العزّ
عرشها الرث من حراب المغيرين
لا تقل: ذلّت الرجولة يا خالد
قم تلفّت ترَ الجنود كما كا
ما تخلّوا عن الجهاد ولكن

 

وأغفت مغموسة في الهوانِ
وأعلامها في الأكفان
واستسلمت إلى الأحزان
نوا منار الإباء والعنفوان
قادهم كل خائن وجبانِ

 

وما يزال الشاعر مؤمناً بالنصر، وبأن للوطن حماته:

مهلاً حماة الضيم إن لليلنا
ما نام جفن الحقد عنك وإنما

 

فجراً سيطوي الضيم في أطماره
هي هدأة الرئبال قبل نفاره

إبداع الصورة الفنية

تتبين لدى أبو ريشة وحدة الإنسان المنسجمة قواه وملكاته بوصفه كائناً ممتلئاً أمام العالم، وسرعان ما تفتت النفس إلى قوى مفكرة وأخرى مصورة وثالثة صوتية. ولكن الصورة بقيت هي المستعصية على المدنية، لأنها الأقدر على التخلص من حدّي الزمان والمكان، والأقوى في خلق المجاز الذي يجمع الغائب إلى المرئي. ولم يعد سوى الخيال مجالاً رحباً للتواصل مع الوجود، والعنصر الأبرز بين عناصر العمل الإبداعي. لقد بدا الشاعر كائناً صُوَرياً.

التصوير الفني إذاً كان همّه، ومن حيث آلية الخيال عنده نلاحظ ثلاث دوائر للخيال: صغرى تتوضع في الجملة الشعرية التي تعبر عن العمق النفسي، ووسطى نجدها في المقطع الشعري وتعبّر عن فكرة، وكبرى تحتويها القصيدة التي تحفل بالرمز القصصي.

إن تلك الدوائر تشكل لولباً مخروطياً صاعداً من القص المرمز إلى اللوحات ثم إلى صور تعبّر عن العمق النفسي لدى الشاعر. إن قصيدة (عمر أبو ريشة) مدروسة بحيث تنطلق من رؤيتها العامة لتتوزع على لوحات ثم تتحول إلى صور. ويتضح ذلك في قصيدة (جان دارك).

ونرى عنده توازياً متوازناً بين اللغة والفكرة والصورة والموسيقا. وتلك السمة تنطبق على تجربة الشاعر عبر الزمن من دون أن تجري عليها خلخلة أو انفصام، وإنما أسعفه الزمان ليحصل على مزيد من المهارة والجرأة والإحكام.

* * *

المرأة في شعر عمر أبو ريشة

إن خلاصة رحلة عمر من خلال علاقته بالمرأة تتضح عبر قصيدة (هي والدنيا):

هي والدنيا.. وما بينهما
رحلة للشوق لم أبلغ بها
طال دربي وانتهى زادي له

 

غصصي الحرّى وأشواقي العنيدة
ما أرتني من فراديس بعيدة
ومضى عمري على ظهر قصيدة

إن للمرأة النصف من حياة عمر وللقضايا الأخرى مجتمعة النصف الآخر. وعلاقة عمر بالمرأة كانت علاقة غامضة تشوبها الشكوى، ولقد كان خريفها أقوى من ربيعها، وشتاؤها أطول من صيفها. وهو دائم المطالبة للمرأة بالوضوح:

ما أنا منك؟ ما تريدين مني؟
حدّثيني.. قصّي جناح ظنوني

 

أنا بعض العِثار من خطواتك
حدّثيني.. لا تنتقي كلماتك

يراوح عمر بين الوصال وبين الجفاء، يريد أن يعرف ولا يريد، يريد أن يتذكر ويريد أن ينسى. وتتعدد حالات الشاعر وعلاقاته من الوداع إلى الفراق إلى الهجر والخيانة والعتاب..

وما يميّز عمر أنه في جلّ شعره لم يكن يبحث عن المرأة/الغريزة، أو عن الشهوة الآنية، بل نلمح في ثنايا شعره عشقاً يتميز بالعنفوان والكبرياء والتسامي.

 إن شعر عمر يكاد يخلو من الأوصاف الجسدية، التي عرفها الشعر في تراثنا القديم، بل انصرف إلى وصف العواطف والانفعالات. لقد اهتم بالبناء النفسي وأهمل الجسدي ما جعل شعره أقرب إلى النفوس وأدنى إلى القلوب.

ومع حبه للمرأة وافتتانه بها، فقد أرادها أن تغضب وتثور وتخرج من إسار ضعفها لتجابه زهوه وكبرياءه

لا تصفحي عني ولا تغفري
قولي: ابتعد عني، قولي: انطلق
يجرح من زهوي تغاضيك عن
لو بين جنبيك بقايا هوىً
محاجر البركان لم تكتحل

 

إني أحب المرأة الحاقدة
ما شئت في أهوائك الفاسدة
أمسي وعن أحلامك الشاردة
لكنت في هذا اللقا زاهدة
بالثلج… لو لا ناره الهامدة

ولم يكن عمر قط رجلاً شارداً عن دنياه، عبداً لأهوائه، فلم تسيطر عليه أبداً عاداته، ولم يستسلم لغرائزه بل ظل يحكمها، حتى لنراه يتعب من يحاول أن يجرح كبرياءه.

وهذا ما نجده في إحدى قصائده:

قالت: مللتك. اذهب لست نادمة
سقيتك المر من كأسي. شفيت بها
قالت وقالت ولم أهمس بمسمعها
تركت حجرتها.. والدفء منسرباً
وسرت في وحشتي.. والليل ملتحف
ولم اكد أجتلي دربي على حدس
حتى سمعت ورائي رجع زفرتها
نسيت ما بي.. هزتني فجاءتها
وصحت: يا فتنتي ما تفعلين هنا؟

 

على فراقك… إن الحب ليس لنا
حقدي عليك. ومالي عن شقاك غنى
ما ثار من غصصي الحرى وما سكنا
والعطر منسكباً… والعمر مرتهنا
بالزمهرير. وما في الأفق ومض سنا
وأستلين عليه المركب الخشنا
حتى لمست حيالي قدها اللدنا
وفجرت من حناني كل ما كمنا
البرد يؤذيك.. عودي.. لن أعود أنا

وبقي عمر طوال حياته يبحث عن أنثى خياله عله في غفلة الدهر يلقاها، لكنه عبثاً حاول فانطوت آماله معه.

الرؤية التاريخية في شعر عمر أبو ريشة

إن مرجعية التراث عند “أبو ريشة” تراث وجداني موار يختلف عما يرد لدى سواه من الشعراء حيث يرد تراثاً إعلامياً ساكناً. المشاهد التاريخية عند عمر تؤكد اتصال الزمن ونموّه المبدع. الماضي عند عمر ليس انتماء قومياً تعسفياً، وإنما هو وجود يصنعه الفكر فتمتد إليه الجسور. وعمر دائب في البحث عن البطولة النبيلة التي تسترفد القصيدة وتتحصن بالفكر وتتهذب بالفن، فإذا بها ترقى إلى مستوى المثل، وإذا بالتراث يخرج عن مفهوم التراث ليغدو وسيلة تيقظ وانبعاث.

والشاعر يحن إلى الصحراء ويطمئن إلى فضائها الواسع بحثاً عن الحرية. ونرى ذلك في قصيدتي خالد ومحمد، وهنا نستحضر قصيدته عن المتنبي يخاطبه:

شاعر العرب غض طرفك
أين ملك في ظلّه ترقص
أين لمع المنى وحمحمة الخيل
فاعذرني إن سرت خلال نشيدي
كيف أهدي إليك بيض الأغاني

 

فالعرب حيارى في قبضة عسراء
النعمى وتشدو شبابة العلياء
ووهج القنا وخفق اللواء
بحة في تفجّع وعناء
وجراح الأيام خلف ردائي

إن أزمة التردي في رأي عمر ليست في الأمة ولكنها في السلطات، وإنها كامنة في الرهان بين الحرية والمصادرة، بين العدل والظلم.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني