fbpx

عشر سنوات على الثورة: إقصاء المثقف إخصاء الثقافة، محاكمة أولى للمثقف والسلطة!

0 252

لاشك أن الثورة السورية، على نظام البعث الذي كان الأسدان: الأب والابن مجرد مترجمين لرؤاه ومنطلقاته – داخلياً وخارجياً – في أبشع أشكال الممارسة الحضيضية، ولا أقول: كانا مجرد تجليين، تأخرت – أي هذه الثورة – عقوداً، إذ إن هذا المولود الزَّنيم – البعث – الذي استجلب معه كوارث هائلة بالنسبة للبلاد التي عانت من القمع والاستبداد، بعد أن أرسى دعائم مرحلة من الظلم والفساد دفع السوريون ضريبتها طويلاً، وتحولت سوريا، في ظلها، إلى ثكنة عسكرية، بل إلى مزرعة للطغمة الجائرة أو العاتية التي حكمت البلاد بالحديد والنار، وما استعداء السوريين على بعضهم بعضاً، كما أظهرت ذلك حرب النظام عليهم إلا من نتائج هذا الانقلاب البغيض في توجيه بوصلة مركبة سوريا تجاه المصير الذي آلينا إليه، وندفع ثمنه كسوريين، غالياً، سواء بالنسبة إلينا ممن هجرنا من بيوتنا ومدننا قبل الثورة، أو بعد انطلاقتها، أو هؤلاء الذين هجروا ضمن الوطن أو ظلوا في مدنهم لايأمنون على مصائرهم لحظة ما، في ظل تفكك الرباط الروحي نتيجة مجمل سياسات القمع والجور وآليات العنف وتحكم أجهزة المخابرات بالناس، وكم الأفواه، واغتناء طغمة حاكمة على حساب جوع أو تجويع الأكثرية، وغياب الطبقة الوسطى التي كان لها دور إيجابي في تطور البلاد، وكل ذلك صورة، أو أنموذج مصغر تمهيدي للواقع الذي أفرزته الحرب، بعد بروز أمرائها العابرين وبات كل سوري: موالاة ومعارضة، مطلوباً من قبل جهات كثيرة، بعد أن أصرَّ رأس النظام على التمسك بكرسي الحكم، وأشعل وطيس حربه على الشعب، ما أدى إلى ارتفاع مؤشر عداد الدم، ليكون هناك مئات آلاف الضحايا، ناهيك عن مليونين من الجرحى أو من أصيبوا بأمراض سيكولوجية ناهيك بجراحات فقد الأهلين والجيران والوطن، وهكذا بالنسبة إلى ملايين المشردين، داخل الوطن، أو خارجه ومن بينهم أصحاب العقول الذين بتنا نخسرهم، وتظهر أسماؤهم تترى في بلدان مضيفة – لاسيما في أوربا – كأصحاب منجزات في ميادين متعددة، في الوقت الذي ابتعد ملايين الطلاب السوريين، في المراحل الدراسية، جميعها، عن مدارسهم، وجامعاتهم التي بدا التعليم فيها صورياًّ، على امتداد عقد زماني كامل!
أعترف، أنني من هؤلاء الذين خيِّل إليهم، بداية، أن نظام الطاغية بشار الأسد لابدَّ وأن يسقط خلال أسابيع، أو أشهر محددة، بعد بدء الثورة السلمية، الطاهرة، ولن يصمد، وذلك بعد سقوطه الفعلي منذ أن خرجت مدن سورية في مظاهرات عارمة ضد النظام، ورأسه، ليعيش – عبر سندات كفالة – بعد أن تجرأ، تدريجياً، بعض داعميه: حزب الله – إيران – روسيا على إعلان تدخلهم، وذلك بعد تمرير فيتوات دعم رأس النظام، وهو ما لم يكن إلا عبارة عن تمثيليات من قادة ومطابخ سياسات كبريات الدول، المتحكمة، بالمنطقة، والعالم، لتسويغ استمرارية حكم الأسد، نتيجة خطط أو لعبة أو اتفاقات ومصالح دولية، من بينها مصلحة: إسرائيل، تحديداً، باعتبار أن هذا النظام، وفي ظل الأسدين. اللعنتين، كان أكبر خادم لإسرائيل على الإطلاق. أجل، وظللت – كمواطن سوري وكمعني أو مراقب ليس من خارج المعادلة – أشحن روحي، بل أوهمها، مظاهرةً مظاهرةً، أسبوعاً أسبوعاً، شهراً شهراً، سنة سنة، بأن بطاقة نعي عصر الدكتاتور الأسد لابدَّ وأن تعلن، عما قريب، إلى الدرجة التي كنت بعد ساعات النوم القليلة التي غدت – على امتداد كل يوم ولا أقول كل ليلة – من عاداتي خلال هذه العشرية الأليمة. أهرع، ما إن أستفيق، صوب جهاز الكمبيوتر، أقلب أو أبحر في مواقع وكالات الأنباء، وأتنقل بين أيمة شبكات التواصل الاجتماعي، أو أضغط على أزرار (الريمونت كونترول) بحثاً عن هذه المحطة التلفزيونية التي كانت تدعي تبني الثورة أو تلك. عساي أجد نبأ يبعث الطمأنينة في هذه النفس القلقة المضطربة – وهي حالة كل سوري ليس منتفعاً من النظام كما يخيَّل إلي – ولكن من دون جدوى، لأتخذ قراراً ذاتياً بعدم الظهور على أية فضائية، بعد أن كنت أحد المشاركين فيها، أنَّى طلب مني ذلك، إلى الدرجة التي ظهرت – أحياناً – عبر بعض منها توسمت فيها الخير، من دون معرفة حقيقتها، مدفوعاً بتعاطفي الكبير مع ثورة السوريين التي أجدني مرتاح الضمير لأنني خصصت لها الكثير من كتاباتي، بعيد انطلاقتها، كما أنني كنت أحد الحالمين بها – ربما كأكثر السوريين – إلا أنني كنت أترجم ذلك في كتابات موثقة لي قبل الثورة، وجاءت كتاباتي بعيد انطلاقة الثورة امتداداً لها، ولن أبالغ عندما أقول أنني بالرغم من عملي – آنذاك – في إحدى الصحف الخليجية ووجود كم من العمل، إذ أنحيت جانباً كل اهتماماتي، ومن بينها مخطوطات معدَّة للنشر افتقدت الكثير منها لسبب كتبت عنه، وبدأت بمتابعة يوميات الثورة، ومن ثم الحرب، إذ أنجزت أكثر من مجموعة شعرية عنها “ساعة دمشق- أستعيد أبي: ديوان إيسن” حيث نصوص أولاها عن وجوه الثوار الأوائل، قبل أن تهيمن لوثات عديدة على الثورة التي طالما انتظرناها وحلمنا بها: المال السياسي – التطييف – الأخونة – التبعية – التسليح.. إلخ، ويتم التخطيط لمحاولة إفراغ الثورة من محتواها، وينحرف كثيرون عن عالم الثورة التي طالما وصفتها بأنها أطهر وأنقى وأعظم ثورات – الربيع العربي – قبل أن يسيء ويتسلل ويخترق أنموذجُ قطاع الطرق الخطَّ الذي وضعه – الضابط حسين هرموش – عبر تأجير البندقية، ويبقى الحريصون على سوريا، من بين المنشقين، لحماية ثورة أهلهم، بل وأهلهم، ومكانهم. كل سوريا، مهمَّشين، مجوَّعين، فإما أن يذعنوا، أو لا مكان لهم في خريطة الثورة!
ساعة دمشق
جاءت مجموعتي الشعرية – ساعة دمشق – والتي تأخرت طباعتها حتى سنة 2016 عن دار أوراق – القاهرة، وحملت عناوين الكثير من نصوصها أسماء الكثيرين من الذين دفعوا حيواتهم دفاعاً عن حرية السوريين وسورياهم، من ازرع و درعا حتى منقار البطة في عين ديوار، لتكون هذه المجموعة التي كتبتها يوماً بيوم، على امتداد السنتين الأوليين من الثورة، أو ثلاث السنوات الأولى من الثورة مساهمة مني – كإنسان وكمواطن وكسوري – لأكتب عن واقع وتطلعات أهل بلدي الذين لما يزل حلم العودة إليه والعيش فيه في على رأس قائمة أحلامي، ولتكون مجموعتي – أستعيد أبي: ديوان إيسن – امتداداً لروح المجموعة الأولى، ولن يكون بعيداً عنها تناولي لمأساة – السبايا الإيزيديات – إلى جانب بطولات كوباني أو عفرين في وجه الاحتلال إلا ضمن فضاءات الحرب التي أشعلها – أصلاً – النظام، في المنطقة، ولم يكن إرهاب الراديكاليين، لاسيما ما بعد الوحشيين الدواعش منهم، إلا أحد وجوه هذه الحرب التي حاول نظام دمشق الاستفادة منه، تجسيداً وترجمة لوعيد افتراضي تم تطبيقه ألا وهو تهديد رموز النظام، بعد أسابيع من الحرب بما معناه “إن لم تتوقف الثورة فإننا سنحرق المنطقة والعالم” العبارة التي تناولناها كأهزوءة، إلا أن هذه النبوءة الكاذبة تحققت، ولهذا التحقق أسبابه الكثيرة!
إن عنونة مجموعتي بـ “ساعة دمشق” مقابل “ساعة قامشلو” كانت لها دلالاتها لدي، ومن أهمها مدى ارتباطي الروحي بالأخيار من أهلي السوريين، ولو أنني أبديت موقفاً، قبل عقد من الزمان لقلت “كل السوريين ماخلا بطانتهم” إلا أن مجريات الثورة وما اشتغل عليه النظام عبر نصف قرن من الزمن استطاعا تدمير جزء من الروح السورية العظيمة التي أتباهى بانشدادي إلى جانبها المضيء الذي عرفته، قبل هذه المحنة العشرية، وكان السوري، الشعبي، البسيط، البعيد عن محرقة النظام. خيرمن يجسد – من وجهة نظري – أنموذجاً روحياً، جعل السوريين جميعهم، على مختلف مكوناتهم، مميزين، وإن كان – في الحقيقة – لكل بلد، أو لكل شعب، ما يميزهما من سمات، إلا أن طوفان حرب السنوات العشر صدم رؤيتي هاتيك، بعد أن وجدت بعض النخب السورية ذاتها تتهافت في ميدان الحرب عليهما، وثمة من رهن صوته في هذا المزاد العلني المفتوح والمفضوح، أو ذاك، لقاء ثمن زهيد، رخيص، بخس، ولست هنا ضد استحصال أي كان على لقمته بشرف، إلا أن لي موقفي الأخلاقي من مساومة السوري على أخيه، في بازارات أعداء إنسانه ومكانه!
روايتي التي كتبتها الثورة
لقد غرقت في مرحلة – ما قبل الثورة – في كتابة المقال، وضمن موجة – ربيع دمشق – سواء عندما كنت داخل البلاد، أم بعد اضطراري للخروج من الوطن، مكرهاً، بسبب كتاباتي، وموقفي من النظام، والخطر الذي كان يهددني، ولقد بلغ الأمر بي، إلى درجة – نسيان أمر مخطوطاتي الشعرية – وعدم التفكير بطباعتها، لأنني لست من هؤلاء الذين يستطيعون- في آن – الفكاك، كتابياً، عن الحالة التي يعيشونها، حياتياً، ومن دون أن أسترسل – هنا – فإن عالم الرواية كان محلوماً به من قبلي، وأؤجل كتابة – روايتي المنتظرة – بعد تجربة أولى في غمارها لم يشأ لها أن تطبع وتنشر، إلا أن عنوان شارع بيتي – شارع الحرية – الذي كان في الأصل عنوان فصل من كتابي السيروي – ممحاة المسافة: صور، ظلال وأغبرة – بات يلح علي دافعاً بي للإقدام على مغامرة سرد من نوع آخر، هو السرد الروائي، وقد وجدتني مقبلاً على كتابتها، بعد أن تم استهداف شارع منزلي في – قامشلي – وإن تم التفجير في شارع متقاطع منه إلا أن ضحاياه كانوا، في أكثرهم، جيراني، وأعرف أعداداً منهم: شخصياً أو أسرياً، بل إن التفجير الإرهابي الذي تم ودمر بيوتات ومحالاً وحصد أرواح أبرياء هزَّ المدينة، الحيَّ، والشارعَ الذي كنت أودع في بيتي الذي يحضنه بقايا كائنات مكتبتي التي تساقطت من أرففها، بالرغم من ابتعاد موقع الحدث ما يزيد عن مئتي متر عن هذا البيت.
تابعت صور الشهداء/الضحايا، وهكذا الجرحى، وشؤون بعض الجيران الذين لم ينجُ أحدٌ منهم، أو من دفع كثيرون من بيت واحد حيواتهم نتيجة هذا العمل الإرهابي، ومن بينهم الطبيب ابن الصديق، أو طالبة الطب ابنة الصديق، أو المهندسة زوجة الصديق التي لطالما استقبلتني في بيتها، أو شقيقه، أو ابنة الجيران، أو الفران، أو الصيدلاني الطيب، أو العامل، أو من يعد الساعات المتبقية لإقامة عرسه، ما دفعني أن أعتكف على الإقدام على مغامرة الكتابة في هذا الميدان، من دون أن أضع في حساباتي التقيّد بشروط الرواية التقليدية، وهو ما سأفعله مع عملين آخرين من بعد هذه الرواية: شنكالنامة – جمهورية الكلب، وكلتا الروايتين على علاقة بالحرب أو هجرة السوريين، ولا أريد أن أتوقف كثيراً عند هذه التجربة، إلا في حدود ماهو مطلوب مني للتحدث فيه عن أثر الحرب على بوصلة الكتابة لديَّ!
أكاديمية الثورة العليا
العنوان الفرعي، أعلاه، هو عنوان إحدى مقالاتي التي كتبتها في فترة بدايات الثورة السورية، وتحدثت فيها عن الجيل الشاب الجديد الذي حطَّم جدار الخوف، إذ لطالما رحت أردِّد: أبناؤنا معلمونا في الثورة، وغير بعيد عن هذا العالم، وإن في شأن كتابي، لا في شأن نضاليٍّ يوميٍّ، وإن كانت الكتابة وجه الثورة – الآن – ولا تنفك عنها البتة، إذ إن كثيرين من الجيل الجديد بات يبدع في مجالات الكتابة أو الإعلام، في زمن الثورة، وإن إجراء أية إحصاءات في هذا الميدان سيؤكد أن الثورة كانت – بحق – خير رحم لولادة أصحاب المواهب في الشؤون الكتابية، وإن كنت أزعم أن الكتابة في مجال الشعر قد انحسرت، أو أن ما قدم في هذا العالم لم يتجاوز ما سبق وحققته الأجيال السابقة، وأقولها ضمن حدود متابعاتي لبعض وسائل النشر، إلا أن وفرة وسائل الإعلام: المسموع والمرئي والمكتوب – افتراضاً على نحو خاص – بعد موات ماهو ورقي، قدَّم أعداداً كبيرة من الإعلاميين، كما أن أسماء كثيرة ظهرت في دنيا السرد، على نحو خاص، وثمة من راح يكتب مذكراته في زمن الحرب، أو روايته، وفي هذا دلالات كثيرة، أولها استمرارية التعويل على الكتابة في معادلة الثورة، بعد أن عاث العنف دماراً، وقتلاً، وتهجيراً، وإفراغاً للبلاد من سكانها، ناهيك بثقة حتى الأجيال التي نضجت أدواتها في أتون الثورة/الحرب بالكتابة، على أنها في طليعة وسائل تناول تفاصيل السنوات العشر، وتوثيقها، وإن جمالياً، أو فنياً، بالرغم من حضور وثائق التوثيق ما بعد الحداثي، إلى جانب أسلحة الحرب ما بعد الحداثية التي تم تجريبها في سوريا، من قبل النظام ومعارضته، بل ومن قبل القوى الدولية التي أوصلت سوريا إلى مهاوي الكارثية، عبر تدخلها، لمفاقمة ما هو كائن، بعد أن كان النظام يمارس تدريبات القتل، بحذر، خشية موقف الأسرة الدولية، وكانت أمام عينيه: صورة نظام صدام حسين، بل صور: زين العابدين بن علي، حسني مبارك ومعمر القذافي أو حتى علي عبدالله صالح!
الكتابة بين اللاجدوى والاستراتيجيا:
إن كنت مازلت أتصور أن الكتابة ذات بعد استراتيجي، وأن هناك ما لانهاية له من أعمال إبداعية ستتناول الثورة والحرب، ولن تتوقف الكتابة عند الأجيال التي عاشت وعانت من آفات ألسنة نيران الحرب التي كوتها، وألظتها، فإن ثمة جيلاً آخر، بل أجيالاً أخرى قادمة، من أحفاد هؤلاء، سيتناولون، لامحالة، هذه الحرب، بطرقهم، ومن منظور كل منهم، لأنها ممكنة الاستعادة وثائقياً عبر أفلام أو مسلسلات أو غيرها، وهذا من حق طفل يتمته آلة الحرب ووجد نفسه في بيت ألماني، أو إيطالي، أو سويدي، أو إفريقي، يسأل يوماً ما “من هما والداي الحقيقيان؟”، “ماذا جرى لوطني سوريا؟”، “لم ارتكب الطاغية المجنون كل هذا القتل؟”، “لم تناوم الضمير العالمي أمام هذه المسرحية الكارثية؟”، “لماذا تدخلت الدول الكبرى أو الإقليمية أو غيرها لأجل مؤازرة النظام؟”. إنها أسئلة افتراضية لابدَّ وأن نجد مثيلاً لها، وإجابات إبداعية: كتابة أوتصويراً!
أجل، بالرغم من مثل هذا الافتراض اليقيني الذي يجعلني – بعد كل خساراتي – كمحترق في أتون الكتابة أن أعول على الكتابة كمطهِّر، وكمعادل للوجود، إلا أنني أرى، في الوقت ذاته، أن كل ما كتب في فضاء الثورة السورية حتى الآن لم يستطع أن يؤمن قطرة حليب لطفل تهدم البيت فوق أسرته وبقي يصرخ في مهده طويلاً، ولا كسرة رغيف لطفلة صغيرة من ضحايا الحرب اضطرت لترك مقاعد مدرستها وراحت تبيع (العلكة) أو (محارم الكلينكس) على مفارق الطرق، في مثل هذا الزمهرير الكانوني اللعين، لتؤمن ثمن دواء أمها المرملة المريضة في أحد كامبات دول الجوار، ولا أن تمنع قناصاً لئيماً أن يطلق الرصاص الغادر على رب بيت خرج في أوج الحرب اللعينة لتأمين حسوة ماء لزوجته الجريحة، إلى ما لا نهاية له من أمثلة ذهب ضحيتها السوريون، نتيجة غباء، أو هلوسة وهستريا وجبن الدكتاتور الذي ضاقت به الأرض، في بلدنا، إلا أن قوى الشرِّ في البلدان التي تتحكم بمصائر السوريين راحت تمدد عمر الدكتاتور وبطانته الزبانية، ثأراً من بلد كان يمكن لإنسانه لولا فكر البعث الذي أنتج هذا النظام أن يكون في عداد طليعة بلدان العالم، لا الشرق الأوسط وحده، اقتصادياً ومعرفياً وحضارياً!
الكتابة خيار عظيم:
لا أخفي يأسي الكبير من النخب الثقافية في بلدنا، في ظلِّ الواقع الحالي. هذه النخب التي وجدناها غير مؤثرة أو فاعلة، منذ بدايات الحرب على السوريين، إذ إن المثقف الذي ظلَّ في الوطن إما أنه انخرط في – لعبة الدفاع عن النظام – طوعاً أو كراهية، أو التزم الصمت، وصار بعض المنتمين إلى هذا الصنف من عداد الرماديين، ولقد وجدنا كثيرين حتى من خارج الوطن، اتخذ الموقف الخنثوي ذاته. كل هذا مقابل أعداد كبيرة من المثقفين الذين انخرطوا في لجة الثورة، من داخل الوطن، أو حتى من خارجه، وكتبوا لها، وواكبوا يومياتها، لاسيما في ظلِّ إمكان كل مواطن عالمي أن يكون صاحب منبر، إلا أن أحداً لم يولها: الكتابة/المثقف/الاهتمام المطلوب، لا النظام ولا معارضته المقصية أو المخصية، ولا أعني روح المعارضة العظيمة غير المكتراة والمهمَّشة والمغيبة. وإذا كنا، الآن، نتحدث من موقع الموقف من النظام، مع التحفظ بخصوص واجهات المعارضة التي ظلت تحت وطأة تأثيرات الجهات الممولة أو الحاضنة، فإن المثقف الذي اتخذ موقفه وبكل بسالة من النظام، ووقف إلى جانب الثورة، بل دخل في لجتها، لم يؤخذ رأيه على امتداد السنوات العشر، وهو ما حدث مع كتائب الكتاب الذين جندهم النظام إذ راحوا يسوِّغون جرائم النظام، ويروجون لسرديته في تخوين الثورة التي مازلت أراها، في لحظة ولادتها، ومواجهتها للنظام أعظم ثورات ربيع المنطقة، في مواجهة الطغاة، وإن كنت أؤمن برأي أراه جد مهم وهو أن من جملة وسائل محاولات النظام لتدمير روح الثقافة، ورسالتها، فإنه اشتغل على تشويه صورة المثقف وعزله، على امتداد عقود، في الوقت الذي بات يقزّم في عيون من عوَّل عليه من المضطهدين، وإن كان في الأمر، كما أرى، ثمة إجحاف بحق هذه النخب الثقافية، لأن المثقف – وهنا أعني منتج الثقافة غير التابع – أول من مهد للثورة، وراح يكسر هيبة الطاغية، في الوقت الذي تمَّ فيه اختراق السياسي وحزبه، فما أكثر هؤلاء المثقفين الذين دفعوا ثمن مواقفهم من آلة النظام، وتمت محاربتهم في حيواتهم، أو لقمتهم، ليتمَّ تحييدهم، أو تشويههم والفتك بهم، حتى من قبل بعض من دأب على الدفاع عن كرامتهم، ووجودهم، ولقمتهم، وحقهم في الحياة!

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني