fbpx

عبد الناصر وثورة 23 يوليو

0 328

الكتابة عن التاريخ أمر محفوف بالمخاطر، ولا يقارب الصدق إلا إذا كان الكاتب قد عاشه فعلاً، ويتمتع بشيء من الاستقلالية والموضوعية.. الآن وقبل الحديث عن ثورة يوليو وأبطالها وتأثيراتها ومنجزاتها لابد من تسجيل عدة نقاط أساسية تمكّن من قراءة مجريات تلك الثورة في ضوئها ومنها:

أولاً: إنَّ منتصف خمسينيات القرن الماضي كان مرحلة مفصلية في تاريخ المنطقة العربية إذ كان الاتحاد السوفييتي قد خرج منتصراً في الحرب العالمية الثانية ففي 30 أبريل/ نيسان عام 1945 استولت القوات السوفيتية على مبنى الرايخستاغ (البرلمان) الألماني في برلين ورفعت فوقه راية النصر الحمراء، وكانت أمريكا في المقابل دولة صاعدة، وتعمل على أخذ أمكنة الدولتين العظميين التقليديتين: إنكلترا وفرنسا في العالم وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط.. (سبق اجتماع روزفلت وستالين وتشرشل في يالطا 11 نوفمبر 1945 اجتماع روزفلت بعبد العزيز آل سعود على الطرّاد كوينسي في البحر الأحمر الذي رسم ارتباط السعودية بأمريكا إلى يومنا هذا، ولتقود الثورة المضادة في المنطقة، ولتردف أمريكا بمليارات الدولارات نفطاً وثمن أسلحة واستثمارات..)

ثانياً: كانت الثورة البلشفية قد قامت في خضم الحرب العالمية الأولى مستغلة الأوضاع الروسية البائسة، وانسحابها من الحرب ما جعل الثوار السوفييت يبشرون الشعوب المستعمرة أو الخارجة من الاستعمار حديثاً بعالم جديد خال من الاستعمار والإقطاع والاستغلال عموماً..

 ثالثاً: إذا كانت الحرب العالمية الأولى قد أسقطت آخر الإمبراطوريات الإقطاعية فإن الحرب الثانية جاءت لتتقاسم مناطق النفوذ وثروات البلدان النامية، ومن جهة أخرى، كانت تلك البلدان، تصارع على جبهتين: التحرر من سطوة الخارج، وتجريف الإقطاعية وتأثيراتها في الداخل للبدء في تنمية شاملة ونهوض اجتماعي عام.. (بغض النظر عن مآل ماجرى)

رابعاً: نشأت في البلدان النامية أو المتحررة من الاستعمار طبقة من الضباط المنحدرين من أصول فلاحية سواء ممن رفدوا الجيوش المستعمرة ذاتها ثمَّ تحرروا منها، أو من الذين تكونت منهم جيوش بلادهم الحديثة، وكانت روح الوطنية عموماً تجري في دماء هؤلاء الضباط الشباب الذين سمحت لهم التطورات أن يكونوا في عداد جيوشهم الوطنية.. 

خامساً: تشكلت في البلدان المستعمرة وشبهها، بين الحربين العالميتين، أحزاب جديدة تبنت مشاريع قومية ووطنية كمسألة التحرر الوطني والوحدتين السورية أو العربية إضافة إلى الاشتراكية أو تحقيق العدالة الاجتماعية على الأقل بعد إنهاء الإقطاع الذي كان يلحق الظلم ويعرقل تنمية البلاد ولعبت الأحزاب المشكّلة حديثاً أيضاً دوراً طليعياً وبغض النظر عن انتساب الضباط إلى تلك الأحزاب أم لا إلا أن تأثير الأحزاب لعب دوراً في تثوير الفلاحين الذين سيكونون لاحقاً مؤيدين بقوة لموجة من الانقلابات العسكرية التي أخذت اسم الثورات وشملت عدداً من البلاد العربية.. 

سادساً: إضافة إلى بروز دكتاتوريات بين الحربين كـ: هتلر وموسوليني وستالين كان الضباط في البلاد العربية الذين قاموا بانقلابات عسكرية هادفة إلى التغيير وتكنيس ركام الماضي قادمين من الأرياف أو المدن الصغيرة، وكانت نزعة الزعامة، وعقلية المختار ورئيس القبيلة، قد أطَّرت تفكيرهم، إضافة إلى ضعف خبرتهم السياسية التي قد تتناقض أحياناً مع عقلية العسكر.. ورغم ذلك، وإذا ما دخلنا في الملموس، فإننا نرى تفاوتاً كبيراً بين هؤلاء لوحظ من خلال سلوكهم لدى الأحداث الكبرى فأعطت حقيقة كل واحد فيهم وما يهمنا هنا هو تسليط الضوء على شخصية جمال عبد الناصر الذي لمع نجمه في الخمسينيات من القرن الماضي رمزاً للثورة العربية ولنقاء الثوري ورومانسيته..!

الحقيقة أن جمال عبد الناصر كان رجلاً استثنائياً في مرحلة استثنائية أيضاً.. وقد تميز بالصدق مع الذات والشعب والأهداف، كما تميَّز بالأمانة للمبادئ الوطنية والقومية التي آمن بها وكرَّس حياته للعمل الوطني والقومي، وقد قام بالفعل بأعمال استثنائية على صعيد مصر وطناً وشعباً، (تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، وتطبيق قوانين الإصلاح الزراعي، ما أدى إلى رفع المستوى الاجتماعي لحياة المواطن المصري، بعد أن منحه كرامته بعبارته التاريخية ارفع رأسك يا أخي، وكان قد ألغى الألقاب العثمانية والمملوكية مستعيضاً بها بكلمة السيد.. إضافة إلى تنشيط الحركة الثقافية، التصدي للعدوان الثلاثي..) وكان نصيراً للقضايا القومية، وقد اكتسب شعبية استثنائية لم يحظ بها رئيس عربي في تاريخنا الحديث والمعاصر.. ولم تكن شعبيته انعكاساً لوسائل الإعلام بل تعكس تأثير إنجازاته لدى شعبه.. ومن هنا يمكن فهم نزول ملايين المصريين إلى الشارع مطالبين بثنيه عن استقالته التي كان قد قدمها بُعيد هزيمة حزيران متحملاً مسؤوليته كرئيس، وهو أول زعيم عربي يفعل ذلك، وتشير الاستقالة إلى صدقه مع نفسه وشعبه.. وبعد تلك الهزيمة وعودته إلى الحكم عمل على إعادة ترتيب الوضع الداخلي ببناء حزب الاتحاد الاشتراكي ليكون نواة لمرحلة جديدة.. وقد ميَّز القوى اليسارية عن غيرها.. ولعله انتقد بعض الممارسات التي ساهمت بتهميش الحياة السياسية في البلاد ونالت من الديمقراطية..! ولكن الحياة لم تكن لتمهله إذ توفي إثر الأحداث المؤلمة بين فصائل فلسطينية والجيش الأردني ما عرف آنذاك بأيلول الأسود وقد كان أسود بحق إذ اختطف الموت حياة الرجل وكان يعد لحرب الثأر مع الإسرائيليين التي أتت بعد ثلاث سنوات من وفاته، وليستغلها، فيما بعد، أنور السادات أبشع استغلال، وليدفع حياته ثمناً لذلك الموقف.. وشتان بين موت وموت..!

 وأخيراً إذا كان بعضهم سيرى مبالغة فيما ذكرته بإشارتي إلى أهم المحطات الرئيسة في حياة جمال عبد الناصر، فقد عشت تلك المرحلة، وأعرف تماماً أن الذي أضعف تلك المنجزات العظيمة فعلاً هو تغييب الديمقراطية بأدواتها الأساسية: الأحزاب السياسية، والصحافة الحرة، وسوى ذلك.. واستفحال أجهزة الأمن أيام الوحدة السورية المصرية، وقتل في أقبيتها بعض الشخصيات الوطنية من كوادر الحزب الشيوعي السوري وقادته كـ: “فرج الله الحلو وسعيد الدروبي وعبد القادر إخوان” من سورية و”عطية شهدي” من مصر الذي كان موته مأساة بحد ذاتها، فقد كان مؤمناً بشخص عبد الناصر.. 

أعود للقول إن فقدان الديمقراطية جعل تلك الإنجازات، فيما بعد، تفقد معناها إذ تسلل الفساد إلى دائرة الحكم العليا، فأضاع كل شيء، وزاد في المأساة مجيء أنور السادات (الرئيس المؤمن) ليلغي ذلك التراث السياسي والاجتماعي لثورة 23 تموز 1952 الأكثر سطوعاً في تاريخ مصر الحديث والموسوم بشخص جمال عبد الناصر بالذات..! 

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني