عبادة القوة
على الرغم من أن الدم يطبع هذا الشرق الأوسط منذ عقود ولكن هذا الشهر يتفوق بشكل خاص في جحيم الموت الذي بدأ في غزة وتوسع في دول الجوار ويبدو أن المنطقة مرشحة لمزيد من العنف بعد أن بدا أن السبيل الوحيد للتفوق هو حمل السلاح وإرساله جحيماً في صدور الأبرياء.
لقد كتبت ألف مقال في السلام وصناعة السلام والتراحم والإخاء، ولكن العالم يزداد توحشاً، وفي كل عام ينضم بلد عربي جديد إلى الحرب وينضم تلقائياً إلى قائمة الدول الفاشلة العاجزة عن توفير الطعام والشراب والأمن لمواطنيها.
فهل يشكل صعود العنف دليلاً جديداً على بؤس فكرة السلام، وهل يجب الاعتراف أننا غانديون حالمون لا مكان لنا في هذا الكوكب القائم على العنف والقوة، وهل نحتاج أن نستمع إلى صرخات نيتشة العائد من غار زارا ليقول بملئ فمه: لقد مات الله وعلينا أن نتدبر أمور أنفسنا، وأن علينا أن نتوقف عن أفكار السلام المريضة والمرتجقة، ونستبدلها بشعار القوة: اسحق الضعفاء اقهرهم اصعد فوق جثثهم، ليس في هذا المستقبل مكان للضعفاء ولا للبائسين ولا للمهزومين.
من المؤسف أن تكون صورة الشرق هكذا بعد عقود من عبادة القوة والكفر بالسلام، ففي حين يسعى العالم الحر إلى معدلات عالية في البحث العلمي والعدالة الاجتماعية وغزو الفضاء وحقوق الإنسان، فإن هذا الشرق التعيس ظل يرقب قيامه وتجاحه على عناوين القوة والسلاح، و كان عنوان الصراع العربي الإسرائيلي هو التفوق الاستراتيجي أو التوازن الاستراتيجي، وكان مواضع الفريقين تتحدد على خطوط النار فقط، ويتم تقييم النجاح والخيبة بعد الرؤوس المتطايرة هنا وهناك، وإحصائيات القتلى التي تقدمها وزارات الصحة بشكل ممتع ومشوق، حيث يقف القاتل على جماجم ضحاياه ويقول لقد سجلنا يوم نصر جديد.
لقد باتت الصور التي تلهم الأجيال هي صور قادة الدم، الذين يقتلون ويُقتلون، ويرحلون وهم يبشرون بالمزيد من برامج الدم.
وحين تطرح مبادرات السلام، فإن قطار السلام يتقدم منهكاً عاجزاً مشحوناً بفتاوى التخوين والتحقير والتكفير، ثم ما يلبث الثوار الغاضبون هنا وهناك أن يدفعوا بابطال السلام إلى الحتوف المفجعة، حيث يتوقف قطار السلام على الفور وينطلق بجنون قطار الحرب والدم من جديد.
لقد أثبتت إسرائيل في الأشهر الأخيرة قدرة متوحشة استثنائية عبر سحق المدن والاغتيالات المذهلة، وأظهرت قدرتها على الوصول إلى فراش خصومها وحجرات نومهم على بعد آلاف الأميال، وباتت العواجل الحمراء على الشاشات العربية لا تتوقف أمام مشاهدة هذا الواقع المذهل لدولة تتفوق بشكل جبار في التكنولوجيا الخبيثة وأسلحة التدمير.
ولكن هل سيوفر لها القتل هذا حياة آمنة؟ وهل سينعم أفراد المجتمع الإسرائيلي بحياة طبيعية تشبه ما تعيشه الشعوب السعيدة في العالم المتحضر؟
من المؤسف أن إسرائيل لم تقرأ شيئاً من درس الحياة، فالعنف لن يأتي بجيل طائع، بل سيأتي بجيل يتفجر غضباً، والآتون أشد غضباً وقسوة وأكثر فدائية من الراحلين، وقائمة الاغتيالات والاعتقالات لا تنتهي، والموت الدموي يأتي بجيل دموي.
ومن المرعب الاعتراف بأن الخطاب المقاوم يمارس الشيء نفسه أيضاً، إلا أنه أقل قوة واقتداراً، وأعجز عن تنفيذ حمامات الدم بالحجم الإسرائيلي، ولكنه يمتلك سطوة الخطاب الدموي نفسه، ويبشر بمزيد من الدم على مراكب الشهادة، ويمارس بالشكل نفسه عبادة القوة وركل السلام.
لا يوجد حل للعنف في الشرق الأوسط بالسلاح المدجج، ولو وجد حل كهذا لأثمر خلال خمسة وسبعين عاماً، ولكن الأحداث تثبت كل يوم أن خطاب العقل والحكمة لا يزال الخطاب الأضعف في طوشة الدم، وأن إنقاذ هذا الشرق التعيس يحتاج إلى جهود جبارة من رجال الوعي لبناء عبادة السلام مكان عبادة السلاح، وجعل الهدف الإنساني غاية في كل حراك سياسي، حيث يكون الإنسان هو الهدف وهو المعيار، فلا يكون الموت في سبيل مقدس مهما كانت قداسته عملاً بطولياً، بل هو انتحار إنساني، ولو أن أحدكم هدم الكعبة حجراً حجراً كان أهون على الله من قتل مؤمن، وكل مقولات الفداء من أجل إيدولوجيات مهما كانت قدايتها فهي في النهاية تقديم الإنسان على مذبح السياسة.