كان ابني الوحيد.. ولكنه أخِـذ إلى الحرب..
لم أكن أملك سواه وبضع دجاجات.. وجَـديٌ صغير.
كنتُ أقضي مساءات الوحدة وأنا أحيك له ملابس الشتاء..
أحياناً أسرع في العمل.. كي تكون ملابسه مهيأة، وكأنه سيعود في الغد..
وأحيانا أخرى أتباطأ متعمدة.. ربما لأني في قرارة نفسي وبقلب الأم الذي لا يكذب أبداً أعلم أنه سيتأخر كثيراً.. أو أنه ربما.. لن يعود أبداً..
فحين أكون قد قاربت على الانتهاء من حياكة القطعة التي في يدي.. أعود وأنسل خيوطها ثم أبدأ بالعمل من جديد.. وبالرغم من ذلك كنت أنتظره.
قبل حلول الشتاء من كل عام.. أكون قد انتهيت من حياكة الزي كاملاً.. وما أن ينقضي الشتاء وهو لم يعد بعد.. حتى أطويها وأضعها على رف خشبي في خزانته..
ها هو العام الثالث الذي يمر بي من دونه.. ورف الخزانة قد امتلأ بملابس صوفية لم تلبس قط..
يأتي الشتاء بلونه الأبيض.. وحزنه القديم.. أنا أجلس كل مساء أمام المدفأة.. وبجواري سلة قش مليئة بالصوف.. وبين أصابعي سنارتين أحيك بهما شالا ً لابني الممعن في الغياب..
– “سيكون بحوزته ملابس شتوية كثيرة عندما سيأتي”..
ابتسمتُ لهذا الخاطر الذي مر ببالي.. ثم قلت محدثة نفسي بصوت مرتفع:
– “يجب أن تكون ملابس الشتاء لهذا العام أكبر من ملابس السنة الماضية.. إذ إنه سيكون أطول قليلاً وأكثر امتلاء”..
أسدلت جفني.. وأخذت أتخيل كيف سيكون ابني وهو في هذه السن.. تابعت وقد عادت الابتسامة إلى شفتي:
– “في شهر شباط من هذا العام.. سيُـتم الثالثة والعشرين من عمره.. بالتأكيد سيبدو رجلاً يافعاً عريض المنكبين.. إلا أنه لا بد قد احتفظ بملامحه ذاتها.. فـثلاث سنوات لا تغير من ملامح المرء الكثير”.
تنهدت بعمق حين نطقت بـ (ثلاث سنوات).. تذكرت آخر عبارة قالها لي وهو يودعني:
“سأغيب شهرين أو ثلاثة يا أمي..”
شعرت بنار تكوي فؤادي وبحرقة في جوفي… ازدردت ريقي فشعرت به لاذعاً.. لم أكن أتخيل أن غيابه سيطول إلى هذا الحد..
ما أصعب أن يطول انتظارنا لسنوات.. وكم هي ساعات الانتظار قاسية.. حين نتوسل الوقت كي يمضي ليصل ما بعده.. أن نراقب قرص الشمس من لحظة بزوغه للحظة غروبه.. كي نستطيع أن نقول لأنفسنا المنهكة :
– “هاهو يوم جديد قد أتى.. وأمامنا متسع من الوقت لننتظر.. أمامنا العمر بأكمله لننتظر”.
تمزقنا دقات الساعة وهي تمشي الهوينى.. وكأنها تدوس بكل خطوة تخطوها على أعصابنا المتأججة المستثارة.. نرغب أحياناً.. في أن نلقي بتلك الساعة في أقرب نهر كي يجرفها التيار ونتخلص من تلك الدقات الروتينية التي ما دأبت تطرق أدمغتنا.
كدت أنهي ما بيدي.. حين سمعت طرقا خفيفا ً على الباب.. مرت لحظات قبل أن يتكرر الطرق مرة ثانية.. وضعت ما بيدي.. استندت على ركبتي.. اتجهت إلى الباب وفتحته.. لم يكن ثمة أحد.. سوى الريح تصفق هنا وهناك.. كان الجَـديُ متكوماً على نفسه ملتصقاً بالجدار يحاول أن يستمد منه بعض الدفء.. والدجاجاتُ راقداتٌ على البيض في قِـنّهـنْ.. فأغلقت الباب وعدت إلى مقعدي.
تكرر الطرق في مساء اليوم التالي.. طرقات خفيفة جداً.. تماماً كصوت قبلة أم على جبهة صغيرها النائم.. تأخذها بخفة ولطف كي لا توقظه.. إلا أنني كنت أسمعها جيداً.. وكأن كل أصوات العالم كانت تخبو.. ويتجلى لسمعي ذاك الصوت صافياً لا يعكره شيء.. وللمرة الثانية.. لم يكن ثمة أحد على الباب..
طوال الأيام التالية.. تكرر الطرق بشكل يومي حتى ألفته.. وغدا جزءاً من مساءات وحدتي.. جزءاً من الشتاء أو من الانتظار.. لم أعد أفكر فيمن هو الطارق.. كان كل تفكيري محصور في أني هل سأسمعه هذه الليلة أم لا؟ هل سيأتي في موعده أم سيتأخر؟
أصابعي كل مساء، تعبث بخيوط الصوف وأذناي مرهفتان بشدة.. وما إن أسمعه.. حتى تسري الطمأنينة في نفسي.. وكأن أحدهم قد نفذ وعده لي بالحضور..
اعتدته واعتدت سماعه.. وكأني على موعد معه كل مساء.. وبمرور الأيام.. تشكل في داخلي يقين بأن هذا الصوت لابد مرسل من عند ابني.. هي رسالة يُحـمِّــلها ابني لرياح الشتاء.. إذ إن لانتظارهما المذاق نفسه.. ذات الحرقة واللوعة.. وذات الفرحة والغبطة.. غدا مؤلماً جداً أن يمر علي مساء لا أسمع فيه ذاك الصوت.. صرت أنتظره تماماً كما انتظرت ابني طوال الأعوام التي مضت.. وأغدو بعد سماعه في غاية السعادة.. وكأني احتضنت ابني للتو.. غدوت أكتفي فقط بأن أسمع تلك الطرقات.. من غير أن أتحرك من مكاني.. وكأني صرت أخاف إن اكتشفت الطارق أن لا يعود مرة أخرى..
عند انقضاء شتاء ذلك العام.. توقف الطرق على الباب، تماما ًمع عودة المحاربين.. فعرفت حينها أن ابني قد مات..
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”
شردت معك وانتظرت عودة الابن ككل الأمهات المفارقات
تأملت بالعودة وتألمت لعدم العودة
تراه ذهب مع الذاهبين
الصبر والثبات لكل قلب مفارق
جميل ماكتبت وبحت
ولكن حبذا آخر جملة لو صغتيها بأسلوب آخر
فبدل “ابني مات”
لتكن
ابني رحل
او غادر
او تأخر
لنترك أمل تعيش عليه الأم بطلة القصة وكل أم تنتظر.
تحياتي لقلمك الرائع