طبيعة العامل الرئيسي الأمريكي في تحديد مآلات الصراع على سوريا.. مقدّمات وسياقات ونتائج
مقدمة:
أعتقد أنّ القاسم المشترك بين جميع الذين بادروا لتقديم رواية خاصة حول مجريات و حقائق الصراع على سوريا في حيثيات و أعقاب حراك النخب السورية في دمشق 15 آذار 2011، وفي صيرورة الخيار الامني العسكري الميليشياوي بين 2011-2020، و الفشل في تحديد العامل الرئيسي في رسم مآلاته التي تجسّدت تباعا في هزيمة صيرورة التغيير الديمقراطي وتفشيل مقوّمات الدولة وتكريس سلطات أمر واقع، قبل الدخول في مرحلة التسوية السياسية بعد 2020، المستمرّة خطوات وإجراءات تحقيق أهدافها حتى اليوم، والتي ستحدد طبيعة النظام السوري وشكل الدولة السورية لعقود قادمة!
عشرات الروايات، بل مئات، أطلق فيها البعض شهادته، حتى من الباحثين العالميين في مطلع 2011، وقبل بداية إرهاصات الحدث السوري الكبير، وخلال سيرورة مراحل الخيار العسكري، وقد كان القاسم المشترك في قراءات الجميع، رغم اختلاف الدوافع والأسباب، التغييب الكلّي أو الجزئي لطبيعة العامل الرئيسي الحاسم في تحديد مسارات الصراع ومآلاته، والذي يشكّله موضوعياً، وفقاً لطبيعة مشاريع السيطرة الإقليمية، وموازين قوى الصراع، هدف الولايات المتّحدة الاستراتيجي في مواجهة تحدّيات الربيع السوري، وآليات تنفيذه![1]
المخيّب لآمال السوريين، والمتناقض مع مصالحهم المشتركة، ومع مصالح الدولة الوطنية السورية الراهنة والاستراتيجية، أنّ جميع القراءات التي تقدّم طيلة تلك السنوات التي أعقبت نهاية الحرب في ربيع 2020، وما تزال، من قبل نخب المعارضات الثقافية والسياسية، كوجبات تثقيف يومية، تساهم في صناعة الرأي العام، ما تزال تحت سقف الروايات التي تغييب طبيعة العامل الامريكي الرئيسي، وهذا يفسّر انفصال ما تقدّمه ثقافة المعارضة السياسية عن وقائع الصراع، وحقائقه القائمة، وعجز السوريين عن فهم طبيعة المستجدات السياسية والميدانية، خاصة على صعيد مناطق سيطرة قسد و الجيش الوطني و الهيئة، ناهيكم عن تطوّر إجراءات وخطوات تأهيل حكومة النظام!.
تأتي أشكال الوعي المضلل الذي تقدمه جميع أقلام ومنصّات شخصيات الصف الأوّل في المعارضات السياسية والثقافية النخبوي على مستويين:
الأوّل: خارجي
ما لا يدركه الوعي السياسي والثقافي النخبوي، ويصرّ على تجاهله، حقيقة أنّ ما يحدد قوّة النظام أو ضعفه على الصعيد الإستراتيجي ليس فقط مصالح وسياسات وظروف روسيا وإيران!! هنا الوعي السياسي النخبوي قاصر لدرجة لم يدرك حتى الآن أن عامل الأمان الاستراتيجي لسلطة للنظام هو بالدرجة الأولى أمريكي، ويتجسّد في واقع أنّ وسائل حماية سلطة النظام الذاتية، المحليّة والإقليمية والدولية لا تتقاطع فقط مع أهداف مصالح أنظمة روسيا وإيران، بل و مع آليات ووسائل تنفيذ أهداف الولايات المتّحدة ؛ وهذا الاستنتاج ليس مفصولا عن حقائق الواقع، وما يحتاجه الوعي النخبوي هو مجرّدة التفاته كريمة لطبيعة سياسات وخطط السيطرة الإقليمية للولايات المتّحدة خلال حقبة الحرب الباردة وما بعدها، خاصة بين 1991-2003، ليدرك طبيعة العامل الأمريكي الحاسم في تحديد مآلات الصراع على سوريا، وكامل منطقة الشرق الأوسط؛ وكان تتقاطع وسائل تحقيق هدف واشنطن الاستراتيجي مع سياسات الحفاظ على سلطة النظام السوري في مواجهة تحدّيات الربيع السوري، العامل الرئيسي في بقاء السلطة خلال مرحلة الخيار العسكري الأولى، وإعادة تأهيلها جيو عسكريا خلال المرحلة الثانية، وسياسيا واقتصاديا، خلال مرحلة التسوية السياسية.
الثاني: داخلي
ويرتبط بالعامل الذاتي، على صعيد سلطة النظام و معارضاتها، وما ينتج عن العلاقات الصدامية بينهما من عوامل تعزيز سلطة النظام!
في حين يمتلك النظام قيادة سياسية شديدة المركزية، تملك خبرة عالية في تخطيط سياسات التحكّم بالسوريين و ضبط خياراتهم و تضييق نوافذ الخطر، او اغلاقها، خاصة عندما ترتبط المسألة بإدراك أهمية تقاطع سياساتها مع أهداف السياسات الأمريكية ووسائل تحقيقها، وبالتالي إمكانيات تجاهل حقوق السوريين السياسية وأسباب بؤس ظروف حياتهم المعيشيّة، لا يجد السوريون على صعيد العامل الذاتي المرتبط بنخب المعارضات سوى طيف واسع من النخب السياسيّة والثقافيّة السوريّة التي أخرجها عن دوائر التأثير والقيادة النضالية وعيها السياسي الإيدولوجي، المنفصل عن حقائق الصراع على سوريا، والجاهل بطبيعة النظام السياسي الإقليمي الذي عملت الولايات المتّحدة على بنائها على صورة مشروع سيطرتها الإقليمية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وما باتت عليه شخصيات وتيارات واحزاب النخب المؤدلجة في ربيع 2011، في أعقاب هزائم تاريخية صنعتها معارك مواجهتها السياسية غير المتكافئة مع سلطة النظام، من عجز عن فهم طبيعة الحدث – الثورة – ناهيكم بإمكانات قيادته، ما عمّق أسباب مأزقها الوطني والسياسي الديمقراطي، واغترابها عن قضايا السوريين المشروعة؛ وقد حوّلتها خيبات الأمل والهزائم الناتجة في مسارات الخيار العسكري وصيرورة مراحله إلى مجموعات متنافسة على التكيّف مع أجندات القوى الخارجية والداخلية التي قادت حروب الخيار العسكري أو تورّطت فيها، وقد تكامل هذا الدور النخبوي السياسي والثقافي بالطبع مع أدوار القيادات العسكرية الميليشياوية التي نجحت في ركوب أجندات قوى الخيار العسكري، وحصان التمرّد والثورة، وباتت سلطات أمر واقع ميليشاوية، تنافس سلطة النظام على نهب وإخضاع السوريين، وتتكامل معها في تفشيل شروط التسوية السياسية الشاملة، وأسباب تفشيل الدولة الوطنية.
[1]– على مستوى الباحثين الأجانب، حدث تجاهل غير مبرر في ضوء وقائع مشاريع السيطرة الإقليمية والصراع التاريخي والراهن على سوريا، لطبيعة العامل الرئيسي الأمريكي!
ثقافة تغييب طبيعة الصراع، (بما هو صراع سياسي بين أهداف التغيير وجمهوره، وبين سلطة ممانعة، ترفض الحد الأدنى من أشكال الإصلاح السياسية، مستقويّة بما يحصل موضوعيا من تقاطع نهجها الاستبدادي مع سياسات أصحاب مشاريع السيطرة الإقليمية الخارجية، التي يأتي الأمريكي في مقدمتها) وحقيقة أورق قوّة سلطة النظام، تكرّست في عشرات الأبحاث المدعومة من قبل جامعات حكومية، والتي انشغل أصحابها في البحث عن عوامل صعود رجل علوي إلى السلطة عبر التركيز على ظروف تأسيس الطائفة في القرون الوسطى، و طبيعة العلاقات الاجتماعية والدينية بين العلويين والسنة والإسماعيليين في الساحل السوري ليس فقط قبل فترة السبعينيات، بل و في فترة ما قبل الدولة الحديثة، فترة العثمانيين خاصة، وتقاطعت مع جهود السلطة لتكوين صورة معينة/سلبية عنها من خلال المسلسلات الدرامية، خاصة في فترة التسعينيات- مسلسل أيام شامية. من نافل القول تكامل تلك الجهود ليس فقط مع سياسات النظام، بل ومع خطاب المعارضات السورية الطائفي، وأبواقها الإعلامية، وقد برز دور رجل الأعمال وصاحب محطّة أورينت الثورية، وأحد شركاء سلطة النظام الاعلاميين، غسان عبود في تنظيراته الطائفية التي تقول بأنّ الأكثرية السنيّة تقع تحت احتلال سلطة الطائفة العلوية وحلفائها من الأقليات، وأنّ التحرر الطائفي التي يقودها السنّة هو المهمّة الاولى للأكثرية السنّية!
المُلاحظ على صعيد ما تُرجم في السنوات الأخيرة، وفي ظل الشحن الطائفي الذي تعيشه البلاد، وبما يبرر و يعزز جهود أطراف مختلفة في محاور السلطة والمعارضة لتأكيد الطبيعة الطائفية للصراع ويغطي على ممارسات وأهداف تتطيف الحراك السلمي، ويمنع السوريين من فهم طبيعة العامل الأمريكي المختلف نوعيا، تركّزت جهود نخبة من الباحثين على إعطاء بعض أدوات وممارسات سلطة النظام الطائفية في مواجهة نضال السوريين الديمقراطي، حراك السوريين السلمي في ربيع 2011، أبعاداً بنيوية، جوهرية، وأعطوها العامل الرئيسي والمسؤولية الأولى في تحديد طبيعة الصراع السياسي، ورسم مآلاته، وقد سعوا لتوضّح أسبابه التاريخية الطائفية التي شكّلت بنية سلطة النظام، وأعطتها أوراق القوّة. ضمن هذا السياق نفهم اهميّة ما صدر من كتب ودراسات وابحاث أكاديمية، تناولت دور الطائفة العلوية في حكم البلاد، وكيفية وصولها إلى الحكم، أو أوراق القوّة الطائفية التي مكّنت قيادة السلطة العلوية طيلة سنوات ما قبل 2011 وخلال الصراع التالي، من المحافظة على سلطتها، وقد شكّل العامل المشترك في المقدمات والنهج والاستنتاجات تجاهل عوامل سياق المرحلة التاريخية الممتدّة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، خاصّة تغييب طبيعة العامل الخارجي الأمريكي!!.
لعلّ أكثر الاطروحات التي سيطرت، ولاقت رواجاً بين الكتّاب في السنوات الأخيرة، هي أطروحة الفرنسي ميشيل سورا، سوريا الدولة المتوحشة، وأثناء المرحلة الأولى من الخيار العسكري الطائفي، في 2014، دوائر الخوف/العلويون في السلم والحرب، للباحث الأكاديمي النيوزيلندي ليون غولدسميث!
في منهج الدراسة، لم يكن مصادفة تجنّب مقاربات التحليل الماركسي، والعودة إلى أبرز مثقفي القرن الرابع عشر، الذي قدّم في حينه نظريات حول علاقة الشعوب بالحكّام وآليات السيطرة السياسية في سياق تاريخي مختلف نوعيا، ولم يكن الهدف من إعادة الاعتبار للرؤية الخلدونية المنتهية الصلاحية سوى تغييب عوامل السياق التاريخي القائمة. هكذا التقت تلك الدراستين في الاعتماد على فكرة ابن خلدون (العصبية)، رغم التفاوت على صعيد التحليل والمقاربات. فعند سورا مثلاً، تبيّن المراجع التي اعتمدها في أبحاثه (ماكس فيبر وأرنست غلنر وعبد الله العروي وتيرا لأبيدوس)، أنّه استخدم أطروحات وأفكار تيار الفيبرية الجديدة، التي تطوّرت مع أرنست غلنر.
إذ يرى غلنر مثلاً أن ابن خلدون، مثقف القرن الرابع عشر، وضع أفضل تحليل للعلاقة بين الدولة والمجتمع في العالم الإسلامي، وطبقاً لهذه الرؤية، يمكن تفسير كثير من التاريخ الإسلامي، من خلال القوة الدافعة للمجموعات القبلية التي وصلت للسلطة (دينا رزق خوري) وفي حالة سوريا قد تتمثل في أفراد قبيلة الكلبيين (حافظ الأسد وزمرة من قادة الأجهزة الأمنية) وبقية العشائر العلوية التي شكّلت وفقا للتفسير الخلدوني عصبية عسكرية/طائفية حكمت المدن السورية لعقود عدة..
أما بالنسبة لأطروحة الباحث ليون غولدسميث، فإن تركيزه على فكرة العصبية الطائفية لم يقلل من أهميته محاولته، تجاوز فكرة العصبية الطائفية لصالح عصبية نيوليبرالية في فترة الحكم الجديدة، وحديثه عن تفكك العصبية العلوية لصالح عصبية حديثة، تمثّلت بتحالف شبكات اقتصادية! يؤكّد موضوعية هذا الاستنتاج ما وصل إليه من خلاصة لبحثه:
استمرار دعم العلويين لسلطة النظام هو العامل الرئيسي الذي سيحدد إمكانية بقائها، وهي لاتخلف في الجوهر عن أهداف دعايات قوى التطييف، سوريا وعلى الصعيد الإقليمي، التي تكاملت جهودها في تغيير طبيعة الصراع خلال 2011، ودفعه على مسارات العنف الطائفي!
ولم يأتِ الباحث النرويجي تورشتين وورن بجديد حول تغييب عوامل السياق الأمريكية! فقد زار سوريا خلال الفترة الممتدة بين 2002 و2009 ليُعدّ لاحقاً أطروحة ماجستير في جامعة أوسلو بعنوان (العلويون، الخوف والمقاومة/كيف بنى العلويون هويتهم الجماعية في سوريا)، فقد كانت أبرز الأفكار التي توصّل إليها الباحث في هذه الأطروحة تقول بأن متلازمة الاضطهاد من السنة أو الإسماعيليين، والتي تشكّلت في وعي العلويين أو عبّروا عنها أحياناً بأشكال مختلفة، وشكّلت أحد أسباب العصبية السياسية العلوية (واعتمدها النظام)، لا تعكس الصورة التاريخية، وإنما هي وليدة سردية سلطوية؛ بمعنى أنّ النظام لعب دوراً أساسياً في تضخيم مخيال المظلومية لدى العلويين بوسائل مختلفة، وأنّ الرؤية الطائفية أو الحس الطائفي لهؤلاء الشباب لا يأتي في سياق رؤية علوية قديمة، وإنما هي نتاج السلطة الحديثة.