صناعة المستقبل: الطفل مبدع أولاً
لا يزال بعضهم، يتصور، حتى الآن، أن الإبداع، أياً كان، هو وقف على الكبار فحسب، وقد يتم النظر إلى ما يبدر عن الأطفال في مجال الرسم، أو الكتابة، أو الموسيقا، والتمثيل بأنه عبارة عن مجرد طفرات، تتم بحكم المحاكاة، ليس أكثر، ومن هنا، فإن هؤلاء ليسهون عن الطاقات، والإمكانات، المختزنة في روح الطفل، والتي لا يفتأ يترجمها أنى واتته الفرصة المناسبة.
وإذا كان الإبداع ينضج مع تطور التجربة، والشخصية، فإن البذرة الإبداعية تنتش، وتنمو، في مرحلة عمرية مبكرة، قد تكون في السنوات الأولى من عمره، وما أكثر هؤلاء الأطفال الصغار من حولنا، ممن ينخرطون في مجال الرسم – مثلاً – وهم في سن الثالثة، أو الرابعة، ليصبحوا، بحاجة إلى انتباه واهتمام من حولهم، لاسيما الوالدان، أو من يعيشون على مقربة منهم، كي يأخذوا بأيدي هؤلاء الأطفال، ويقوموا بتشجيعهم.
ثمة مجالات إبداعية، قد تكون الأكثر قرباً إلى عالم الطفل، من غيرها، ومن بينها ما يتعلق بروح عكس مرئياته، من حوله، وإعادة صياغتها، عبر خطوط أولى، في غياب اكتمال ملكة اللغة – بشكل كاف – لديه، كي يظهر ذلك إما عبر رسوم أولى، أو عبر إجراء صياغات لغوية تتميز بالدهشة، اعتماداً على المعجم الطفلي البدائي، كي يقيم علاقات جديدة، بعيداً عما هو مألوف بين المفردات التي يستخدمها، كي تكون له لوحته أو نصه الإبداعي.
وقد لوحظ أن الطفل عندما يبدأ الرسم، فإن أول ما يرسمه، هو عالمه المحيط، سواء أكانت أمه أو أباه، أو أخوته، بل بعض مفردات ومحتويات المنزل من علامات فارقة: الأبواب – النوافذ – التلفزيون – قطع الأثاث – وكذلك الأشجار، أو الحيوانات والطيور الأليفة القريبة منه.
في مثل هذه المرحلة – تحديداً – يظل الطفل أحوج إلى من يتفهم عالمه الداخلي، وما يمور به، من انفعالات وأحاسيس، ومشاعر، ومساعدته في تسليط الضوء على كل ذلك، مراعياً درجة قدراته، ومدى استيعابه لمثل هذه الرموز، ليكون ذلك كله نواة قاعدة ثقافية، لابد منها للطفل، سواء أكان ذلك في حياته العامة أو الإبداعية.
لقد رأى كثيرون من علماء النفس: إنه ما من طفل يولد، إلا وتكون له موهبته في أحد المجالات الإبداعية، ومن هنا، فإنه وفق آراء هؤلاء، تقع على المحيط الاجتماعي للطفل مسؤولية كبرى، في قراءة ميوله وسبر فيض عواطفه، وتوجيهها وتنشئتها بالشكل المطلوب. فما أكثر هؤلاء الأطفال الذين تلد في نفوسهم خصال الإبداع، بل والعبقرية، بيد أن جهل الأهل قد يدفع إلى وأد هذه الموهبة أو العبقرية، أو يحد منها تدريجياً، بل أن يسهم في توجيهها إلى مجالات غير ذات شأن، بل وحتى إلى مجالات خطيرة قد تصل إلى مرحلة الانحراف، أو الجريمة.
إن رعاية الطفل تعد مسؤولية جد خطيرة، وحساسة، فهي ليست أمراً بسيطاً وسهلاً، كما يراها بعض الآباء والأمهات، متوهمين أن تأمين المسكن والملبس والطعام والتعليم للطفل، يعد ذروة الرعاية البيتية، من دون أن يدرك هؤلاء بأن تربية الطفل إبداعياً هي من أدق وأصعب المهمات المطلوبة منهم. ومن هنا، فإن تنشئة طفل مبدع، تتطلب توفر ثقافة ملائمة لدى والدي هذا الطفل، وبمعنى آخر، إنه لابد من تنشئة والديه أولاً على كيفية احتضان مواهب وإمكانات وطاقات طفلهما.
ومن أول الواجبات التي تطلب من الوالدين، دراسة حالة طفلهما، وقراءة ميوله بدقة، ومحاولة رسم معالم الطريق أمامه، وتوفير ما يشبع هذه الميول، فالطفل الذي تظهر لديه موهبة في عالم الرسم، لابد من توفير ما يلزمه من ألوان ودفاتر رسم، ومجسمات ولوحات مساعدة، بل ولابد من الاستعانة بمن هو مختص في مجال تعليم الرسم، فيما إذا لم تتوفر لديهما الثقافة الكافية في هذا المجال، وقس على ذلك في مجال الكتابة، أو الموسيقا، أو التمثيل.
وحقيقة، لقد شهدت العقود الماضية اهتماماً كبيراً بإبداع الطفل، حيث نجد في الكثير من الدول المتطورة مراكز بحثية خاصة بالأطفال، ناهيك عن أنه هناك من يهتم بـ “مسرح الطفل” و”أدب الطفل” سواء أكان أدباً طفلياً أم أدب أطفال، وهناك من يهتم بمرحلة ما بعد الطفولة، أي مرحلة اليفاعة، والشباب، حيث يسهل التعامل مع من ينتمي إلى هذين العالمين.
وبدهي، أن توفر المؤسسة المعنية بـ “إبداع الطفل” في أي بلد، أمر ضروري، لأن إبداع الطفل ينبغي أن تتم رعايته، واحتضانه، وصقله، عبر ثلاث جهات هي: المنزل – المدرسة – المؤسسة الخاصة، لأن العناية بإبداع الطفل، يعني قبل كل شيء العناية بـ “المستقبل”، أو على وجه الدقة صناعة المستقبل نفسه.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”